تكنولوجيا العالم الافتراضي.. أنا أشارك إذا أنا موجود

بينما نحن مفتونون بالواقع الافتراضي، أخفقنا في التعامل مع الواقع الفعلي الذي نحيا فيه، وأصبحنا بأمس الحاجة إلى إعادة التوازن بين عالمنا الافتراضي وعالمنا الحقيقي الذي نحياه. بعد أن سلبت منا التكنولوجيا لحظات نخلو فيها إلى أنفسنا، لم ينج من سطوتها حتى الأطفال.
لندن – اليوم نتحدث عن عزلة مفروضة علينا بسبب من كوفيد – 19، ما مدى صحة ذلك؟ هذا ما يبدو عليه الأمر للوهلة الأولى؛ إلا أن عزلتنا بدأت قبل كوفيد وتعمقت بسببه. لو نحن تعمقنا في دراسة الموضوع سنكتشف أن الإنسان، على عكس ما هو متداول اليوم، فقد العزلة وفقد معها لحظات من أحلام اليقظة ومن التأمل الذاتي مع وصول الهاتف الذكي ومواقع التواصل الاجتماعي، التي استبدلت عالمه الواقعي بعالم افتراضي وجد نفسه بمرور الوقت غارقا فيه.
لنراقب تحركاتنا خلال 24 ساعة؛ ما أن نقوم من الفراش حتى تمتد يدنا تبحث عن الهاتف الذكي، نلقي عليه نظرات قد تكون خاطفة، ويستمر ذلك معنا ونحن نعد الإفطار ونتناوله، وإن كنا ممن يتنقلون إلى عملهم بالسيارة، سنجد أكثر من وسيلة لمتابعة استخدام الهاتف الذكي، وغالبا ما تكون السيارة تعمل بتقنية “بلوتوث”، ليتحول الهاتف الذكي، ونحن معه، إلى جزء من السيارة.
عالم افتراضي
إن كنا من مستخدمي النقل العام في التنقل، واعتدنا الانتظار في محطات القطارات وحافلات النقل، سنكتشف أن أي شخص يشاركنا الانتظار يستغل أي ثانية من الفراغ ليمسك بهاتفه يعبث به. في طريق عودتنا إلى المنزل لن يختلف المشهد، بل سيضاف إليه مشهد التسوّق داخل السوبرماركت، حيث متعة التسوّق تفشل أيضا في إبعادنا ولو لدقائق عن العبث بالهاتف.
يتفق علماء الاجتماع على أن قدرة الأفراد على تحمل البقاء بمفردهم تتلاشى، فنحن لم نفقد فقط القدرة على التركيز بما هو حولنا، بل أيضا فقدنا تلك اللحظات التي طالما استمتعنا خلالها بالاستغراق في أحلام اليقظة، ولحظات التأمل الذاتي.
هل تعرفون أشخاصا قريبين منكم يحملون معهم الهاتف الذكي إلى غرفة النوم يقلبون فيه، وقد يستيقظون في منتصف الليل للردّ على رسالة أو كتابة تعليق؟ بالتأكيد أنتم تعرفون عدة أشخاص، ينطبق عليهم ذلك، بل قد تكونون أنتم من بين هؤلاء الأشخاص.
غالبا، أنت تمتلك هاتفا ذكيّا، تستعمله الآن لتقرأ هذا النص، ولديك حساب على فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام، ولا بد أنك تتذكر مرات عديدة وجدت فيها نفسك تتجاهل صديقا أو فردا من أفراد عائلتك، يجلس معك في نفس الغرفة، لأنك منهمك تماما في عالمك الافتراضي الخاص. كل شيء بات افتراضيا في عالمنا، متاحف افتراضية، وعيادات افتراضية، وأصدقاء افتراضيون وسياحة افتراضية، ساهم جميعها في فصلنا عن الواقع.
إلا أن تكنولوجيا الواقع الافتراضي، مثلها مثل باقي فروع التكنولوجيا، تحمل الوجه الإيجابي والوجه السلبي؛ فهي من جهة تخلصنا من مشاعر الوحدة وتنقذنا من الملل، ومن جهة أخرى تجعلنا أقل انتباها لأقرب الأشخاص إلينا، وربما تجعل من الصعب علينا الاختلاء بأنفسنا قليلا، والكثير منا يخشى الاعتراف بذلك.
في حوار مع مجلة “ساينتفك أميركان” تقول شيري توركل “لا نزال نعيش علاقة رومانسية مع هذه التكنولوجيا، إننا مثل الشباب العاشق الذي يخشى إفساد علاقاته العاطفية بالتحدث عنها”.
وقد أجرت توركل، وهي عالمة اجتماع أميركية تعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مقابلات شخصية مع المئات من الأشخاص من مختلِف الأعمار، وسألتهم عن استخداماتهم للهواتف الذكية والأجهزة اللوحية ومواقع التواصل الاجتماعي والشخصيات الافتراضية والروبوتات، وتوصلت إلى استنتاجات بعضها إيجابي، ولكنّ معظمها سلبي.
وعلى عكس الاختراعات السابقة التي أحدثت طفرة، كآلة الطباعة أو التلفزيون، ترى توركل أن هذه التكنولوجيا “دائمة الاتصال، ودائمة التمحور حول الذات” وهي تهدد بتقويض بعض نقاط القوة الأساسية التي يمتلكها البشر والتي يحتاجون إليها للازدهار.
متاحف افتراضية وعيادات افتراضية وأصدقاء افتراضيون وسياحة افتراضية ساهم جميعها في فصلنا عن الواقع
أكثر ما يقلق توركل بشأن تفاعل الناس الدائم مع تكنولوجيا التواصل الاجتماعي، هو التغيرات التي أحدثتها عليهم، ليصبحوا غير قادرين على تحمل البقاء بمفردهم. وهي تغيرات طالت جميع الفئات العمرية.
وتزداد الخطورة على الأطفال، فالطفل يحتاج إلى الانفراد بنفسه، والعزلة بالنسبة له مطلب أساسي لإقامة حوار مع النفس. مع العلم أن القدرة على البقاء مع نفسك واكتشافها هي أحد العناصر المهمة للنمو.
اليوم، غزت وسائل التكنولوجيا عالم الأطفال، ولم يسلم منها من كان في عامه الثاني أو الثالث أو الرابع، وهي غالبا ما تحرمهم من الاختلاء إلى أنفسهم، وتجعل من الصعب عليهم إقامة علاقات إنسانية حقيقية.
يجادل بعضنا، أن الناس يلجأون إلى تكنولوجيا الواقع الافتراضي هربا من الملل، بينما يشتكي بعض آخر من فقدان الهدوء والسكينة؛ وبمجرد أن يتاح لهم ذلك، ينظرون إلى هواتفهم ويعودون إلى حالة التوتر.
وتحذر توركل من أن الناس بدأوا ينظرون إلى الآخرين باعتبارهم أشياء، الأمر الذي يرتد سلبيا على العلاقات الأسرية ويمزقها. وتقدم توركل مثلا على ذلك، عندما تبدأ العمة حديثها على مائدة الطعام، التي تضم أفراد العائلة، تجذب ابنة أخيها الصغيرة الهاتف وتتصفح موقع فيسبوك، ليمتلئ عالمها فجأة بالأحداث والأخبار المختلفة، مما يؤدي إلى إفساد التواصل خلال العشاء العائلي.
وتقول توركل، التي قابلت عددا من طلاب المرحلتين الإعدادية والثانوية، إنها توجهت إليهم بسؤال هو “هل تردون على الرسائل المرسلة إليكم في منتصف الليل”؟ وكان ردهم “نعم، بالطبع”. وهذا ما أطلقت عليه إثبات الذات وإثبات الوجود من خلال مبدأ “أنا أشارك، إذا أنا موجود”.
إن كنت تشارك ما ينشره أصدقاؤك، وترد على رسائلهم في منتصف الليل، فأنت تضع نفسك في دائرة مختلفة، دائرة الذين يشعرون بواجب الرد، ويتوقعون التواصل بشكل مستمر؛ الجميع مستعدون لطلب النصح من أقرانهم والأخذ بآرائهم، أو على الأقل التظاهر بذلك.
وتتحدث توركل عن حالة امرأة شابة لديها ألفا متابع على موقع إنستغرام؛ اعتادت أن تنشر على حسابها سؤالا حول مشكلة ما في التاسعة مساء، وفي الثانية صباحا كانت تتلقى الردود، وتظل مستيقظة لقراءتها. هذا ما يفعله العديد من الأطفال الساعة الثانية صباحا.
وتحذر توركل من أن مدمني التواصل الافتراضي لن يتطور لديهم إحساس بالاستقلالية الذاتية، ولن يستطيعوا إقامة علاقات شخصية أو مهنية؛ فهم لا يشعرون أنهم قادرون على التعامل مع الأمور المهمة وحدهم. ولا شك أنهم سيواجهون الكثير من المشكلات في حياتهم، فهم اعتادوا على طلب التصويت على كل شيء يثير حيرتهم. إنهم بهذا يسندون اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم إلى غرباء افتراضيين.
تفاؤل حذر
لا أستطيع أن أمارس حياتي المهنية أو الشخصية دون استخدام هاتفي أو بريدي الإلكتروني، ولا يستطيع الطلبة الحصول على المنهج الدراسي الخاص بهم من دونه؛ نحن لا نملك اليوم خيار الخروج من العالم الذي تهيمن عليه التكنولوجيا. والسؤال كيف يمكننا أن نحيا حياة ذات معنى في ظل الاتصال الدائم والذي يتمحور حول الأشخاص، بل ماذا سيحدث عندما تصبح هذه التكنولوجيا داخل عقولنا، أو جزءا من ملابسنا، وجزءا من النظارات التي نستخدمها؟
وترى توركل أن الحل سيكون من خلال تطوير شكل من أشكال قواعد الممارسة العامة، وهي تعتقد أن شركات التكنولوجيا ستُسهم في هذا، بعد أن أدركت أنه ليس من الجيد أن يظل الناس متصلين بالإنترنت بشكل دائم.
سيتم الاتفاق على معايير وقواعد للذوق والكياسة؛ على سبيل المثال إذا تلقيت رسالة ولم أرد عليها في غضون 24 ساعة، يحق للمرسل أن يشعر بالقلق، أو يغضب مني لأني لم أرد؛ أعتقد أننا سنبدل توقعاتنا بشأن إمكانية بقاء الشخص متصلا بالإنترنت طوال الوقت.
يجب أن تكون هناك أماكن مقدسة لا يجوز فيها التواصل عبر الإنترنت، مثل مائدة العشاء التي تضم الأسرة، وداخل السيارة، فلنجعل هذه الأماكن لتجاذُب أطراف الحديث؛ لأن النقاش هو ترياق للمشاكل التي نتحدث عنها. إن كنت تتحدث إلى أطفالك وإلى عائلتك وإلى دائرة معارفك وأصدقائك باستمرار سيتم التحكم بالآثار السلبية لهذه التكنولوجيا.
قدرة الأفراد على تحمل البقاء بمفردهم تتلاشى، فنحن لم نفقد فقط القدرة على التركيز بما هو حولنا، بل أيضا فقدنا تلك اللحظات التي طالما استمتعنا خلالها بالاستغراق في أحلام اليقظة، ولحظات التأمل الذاتي
تقول توركل “رسالتي ليست مناهضة للتكنولوجيا، وإنما هي تشجيع على التحاور ورفع الروح المعنوية للإنسان؛ علينا إجراء تقييم شامل لثقافتنا السائدة، التي تطالب بكل ما هو أكثر وأفضل وأسرع؛ نحتاج إلى تأكيد ما هو ضروري من أجل إثراء قدراتنا الفكرية وتحسين علاقاتنا بأطفالنا ومجتمعاتنا وشركاء حياتنا”.
الجانب الأكثر إشراقا بالنسبة لتوركل هم الشباب الذين كبروا في ظل هذه التكنولوجيا، ولكنهم لم يفتنوا بها، ويستطيعون أن يطلبوا من محادثيهم عبر الإنترنت الانتظار قليلا؛ لأنهم خبروا تأثيرها في تقويض الحياة في المدرسة والحياة مع والديهم. هذا هو الجانب الذي يدعو إلى التفاؤل، ولكنه تفاؤل يشوبه الحذر. بالتأكيد لن يكون بالإمكان التخلي عن هذه التكنولوجيا، ولكن ربما يمكننا استخدامها مستقبلا بطريقة أكثر ذكاء.