جيمس تيسّو رسام الأناقة الباذخة

الفنان جيمس تيسّو عمل على رسم بورتريهات نسائية يُصوّر فيها الأناقة والحداثة ما فتح أمامه أبواب الحلقات والنوادي التي يرتادها عِلية المجتمع.
الاثنين 2020/04/13
أعمال فنية لا تنتمي لأي مدرسة أو تيار

جيمس تيسّو، صاحب اللوحة الشهيرة “حلقة الشارع الملكي”، فنان فرنسي الأصل، إنجليزي الهوى، كان يُفترض أن يُقام له معرض بمتحف “كي دورسي” حتى نهاية يوليو القادم. هنا، محاولة للتعريف بفنان لم يتّبع سيرة أصدقائه الانطباعيين.

جيمس تيسّو، خلافا لما يوحي به اسمه، هو فنان فرنسي، واسمه الحقيقي جاك جوزيف تيسّو (1836-1902). التحق في سن العشرين بمدرسة الفنون الجميلة بباريس حيث تعرّف إلى إدغار دوغا، أحد رؤوس الانطباعية. هناك اختار أن يسمّى بذلك الاسم تعبيرا عن إعجابه بالإنجليز وميله إلى نمط عيشهم.

بدأ يُسجل حضوره في باريس منذ أواخر الخمسينات، حين شارك في صالون باريس عام 1959. وفي فترة كانت الحداثة التي نظّر لها بودلير تجد أصداءها في ريشة الأميركي جيمس ويسلر، والفرنسيين كلود موني، وإدوار ماني وإدغار دوغا، صار تيسّو بأسلوب حياته الداندي محبوبا في الأوساط الراقية.

وبرغم تأثره بفن النقش الياباني، فإنه سرعان ما انتقل إلى بورتريهات نسائية يُصوّر فيها الأناقة والحداثة كما تبدّت في تلك الفترة، ما فتح أمامه أبواب الحلقات والنوادي التي يرتادها عِلية المجتمع.

وكان يمكن أن يواصل نشاطه الفني المتميز لولا هزيمة فرنسا أمام القوات البروسية عام 1871، فقد ساعد مُتمرّدي كومونة باريس وفتح لجرحاهم فندقه الخاص، فلما منوا بالهزيمة هاجر إلى لندن، حيث استغل شبكة علاقاته الاجتماعية والفنية وكان معروفا هناك، إذ سبق له أن أقام معارض في الأكاديمية الملكية وتعامل مع جريدة فانيتي فير كرسام كاريكاتير.

الثابت أن تمرّس تيسّو بالرسم، ومهارته في رصد التفاصيل الدقيقة، رسّخا عنه صورة مُضادة للفنان الملعون
الثابت أن تمرّس تيسّو بالرسم، ومهارته في رصد التفاصيل الدقيقة، رسّخا عنه صورة مُضادة للفنان الملعون

وكانت شهرته كرسام للأناقة النسائية قد ساهمت في فرض اسمه في الساحة اللندنية بخاصة والإنجليزية بعامة، ما سمح له بارتياد دوائر المجتمع العليا. هناك تعرف إلى امرأة أسكتلندية اسمها كاثلين نيوتن، فصارت رفيقته وموديله، حتى وفاتها عام 1822. وبوفاتها قرّر تيسّو العودة إلى فرنسا حيث شارك في عدة معارض بلوحات تتركّز كالعادة على صورة المرأة الحديثة. واصل رسم المرأة على اختلاف تجلياتها في سلسلة أسماها “امرأة باريس”، قبل أن يتحوّل منذ أواخر ثمانينات القرن التاسع عشر حتى وفاته إلى رسم صور من الميثولوجيا الدينية أطلق عليها “الابن الضال”، إضافة إلى مئات الرسوم التصويرية للكتاب المقدّس، أكسبته شهرة عالمية في منعطف القرنين التاسع عشر والعشرين.

وبوفاته خبا اسمه وما عاد المُؤرّخون يذكرونه إلّا كواحد من الفنانين الذين عاشروا بعض الانطباعيين، ذلك أن تيسّو لا ينتمي لأي مدرسة أو تيار. فالنقاد يختلفون حوله، هل هو كلاسيكي أم حداثي، واقعي أم مُقلّد، انطباعيّ أم رجل إطفاء (وهو تعبير ساخر كان يُطلق على الفنون الأكاديمية ما بين 1830 و1880، واستمدّه النقاد من أعمال تظهر الخُوَذ اللامعة للجنود التي تُذكّر بخوذ رجال المطافئ)؟ وهل هو نسخة مُشوّهة من إنغر ودولاروش، أم هو خَلفٌ مُتأخّر للرومانسية؟

الثابت أن تمرّسه بالرسم، ومهارته في رصد التفاصيل الدقيقة، فضلا عن ثرائه ومخالطته الطبقة الأرستقراطية لعبت كلها دورا كبيرا في خمول ذكره، ورسّخت عنه صورة مُضادة للفنان الملعون. فقد ظل اسمه لا يذكر إلّا عند الحديث عن سيرة الانطباعيين، أو عند استعراض الحياة الباريسية في أواسط القرن التاسع عشر، وخاصة لوحته التي يعدّها المؤرّخون وثيقة تاريخية هامة عن تلك الفترة.

هذه اللوحة هي “حلقة الشارع الملكي”، وتُمثّل صورة جماعية لاثني عشر رجلا، جامدين كأعمدة الرواق الحجري الذي لاذوا به، ثابتين كما يُثبّت المرء أمام عدسة تصوير. المكان بناية غابرييل في ساحة لاكونكورد بباريس، حيث فندق أومون الذي قام على أنقاضه فندق كريون الحالي. وفي الأفق سقف قصر الصناعة، الذي أزيل. هذه اللوحة رسمها تيسّو عام 1868، وتجمع أعضاء نادٍ تأسّس قبل ذلك التاريخ بعشرين عاما على الطريقة الإنجليزية، ولا يزال قائما حتى الآن تحت اسم “حلقة الاتحاد الجديدة”. تلك اللوحة الضخمة (3 أمتار على مترين) سرعان ما صارت معروفة عالميا في شكل معلقات وبطاقات بريدية.

اللوحة هي بورتري جماعيّ لشبّان في الثلاثين من عمرهم، يتحدّرون من عائلات نبلاء وأرستقراطيين، ومن عائلات أخرى جديدة استفادت من النهضة الاقتصادية والصناعية في فرنسا. كلهم ملكيون مثل غاستون غالّيفّي الذي لم يصبح بعدُ جنرالا، ولم يكن يتصوّر أنه سيخلد في الذاكرة بعد صراعه الدامي ضدّ مُتمرّدي الكومونة.

والأمير بولينياك وهو يقرأ كتابا عن لويس السابع عشر، وشارل هاس الذي سيُخلّده مارسيل بروست، إذ استوحى منه شخصية شارل سوان أحد أبطال روايته الشهيرة “في البحث عن الزمن الضّائع”، إلى جانب البارون رودولف هوتّنغر، وريث البنك البروتستنتي الكبير، الذي آلت إليه اللوحة بعد عملية قرعة، وظلّت على ملك آل هوتّنغر إلى أن باعها أحد الورثة مؤخرا لمتحف كي دورسي لقاء أربعة ملايين يورو، علما أن تيسّو حصل على ألف فرنك من كل فرد من المجموعة مقابل جهده، أي ما يعادل 3270 يورو اليوم.

الطريف أن المتحف موّل عملية الشراء هذه بإيرادات معرض سابق نظّمه لكلود موني، أحد رؤوس الانطباعيين الذين أدار لهم تيسّو ظهره.

16