قيس سعيد.. صدق النوايا وإخفاق الاتصال

يحاول الرئيس التونسي قيس سعيّد بكل ما أوتي من قوة ومن صلاحيات دستورية أن يترجم عفويته وقربه من التونسيين والظهور في صورة الأب المجمّع للكل في قلب تفشي فايروس كورونا في البلاد.
حاول قيس سعيد إتمام الملمح الذي يريد إظهاره للتونسيين، عبر ظهوره الأحد بثكنة الأمن الرئاسي بمنطقة قمرت بالضاحية الشمالية للعاصمة التونسية وهو يشرف بنفسه على تجميع التبرعات والمساعدات التي خصّصتها الرئاسة لمن يستحقها من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وغير القادرة على مجابهة تكلفة العزلة التي فرضها الوباء.
أثارت الصور المرافقة للبيان الذي أصدرته الرئاسة هيجانا في وسائل التواصل الاجتماعي بين منتقد للسياسة الاتصالية للرئيس، وبين مدافع عن نواياه وصدقها وقربه كرئيس آت من أوساط اجتماعية متوسطة الحال، ملتصق بهموم من وعدهم بأنه سيكسر الصورة النمطية للرئيس الساكن في أبراجه العاجية.
إلى حدود نشر صور نشاطه وإشرافه على تجميع المساعدات الإنسانية، كان كل شيء عاديا، فلا يوجد رئيس مهما كانت فصاحته أو تلقائيته قادرا على توحيد مواقف الجميع حوله، لكن بمجرّد إرفاق نص البيان بفيديو توجه فيه الرئيس بكلمة للشعب عجّت جلّ محامل التواصل الاجتماعي بشعار واحد “مواطنات ومواطنون لا رعايا”.
طوفان فايسبوكي كان مردّه اقتباس الرئيس التونسي من حكاية تاريخية حدثت مع الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب حين قال ناقلا عنه ما حصل “عندما كان سيدنا عمر بن الخطاب يتفقّد أحوال الرعية واستمع إلى امرأة تشتكي إلى ربها وتقول تولى أمرنا وأهملنا.. فعاد إلى بيت مال المسلمين وأخذ جزءا من القمح… وكان أمير المؤمنين مرفوقا بأحد رفقته الذي قال له أأحملها عليك؟ أم أحملها عنك يا أمير المؤمنين؟ ، فقال احملها عليّ.. ويحك أستحملها عني يوم القيامة”.
سعى الرئيس التونسي عبر هذا الفيديو استباق حملات كان يعرف أنها ستُشن ضدّه وأنها ستتهمه مجددا بـ”الشعبوية”، خاصة أنه لم يكن مرتديا أبسط مقومات الوقاية كالكمامة حين كان يحمل بنفسه المساعدات وينقلها من المستودع المخصّص لها بثكنة الأمن الرئاسي إلى الشاحنات التي جُهزت لإتمام مهمة توزيعها.
لكن على العكس من ذلك حصل ما لم ينتظره الرئيس حين تعالت أصوات المنتقدين الذين سطّروا بالخط الأحمر وبالبنط العريض تحت كلمة “الرعيّة” التي تمّ تفسيرها على أنها خطوة إلى الوراء تتعارض مع تونس الطامحة لاستكمال آخر مراحل التوق للدولة المدنية.
لا يعارض طيف واسع من التونسيين لا الاستدلال لا بالقرآن ولا بالسُنة ولا بالأحاديث النبوية، لكن في المقابل ينتابهم أيضا خوف مزمن من توظيف المتشددين لهذه المراجع بما يفتح الباب أمام عودة محاولات أسلمة المجتمع مثلما ما حصل بعد ثورة 2011.
يلوم الكثير من المنتقدين الرئيس، بصفته رئيسا للجمهورية وخبيرا مختصا في القانون الدستوري قبل أن يدخل قصر قرطاج، متسائلين عن هدفه من استعمال مفردة “الرعيّة” التي تعني اصطلاحا عامة الناس الذين عليهم والٍ يرعى مصالحهم استنادا على الحديث النبوي “كلكم رَاع وَكلكم مسؤول عن رعيّته”.
في المقابل أخذ شقّ آخر يفسّر استناد قيس سعيد على مثال عمر بن الخطاب بأنه رسالة موجهة إلى بعض الإسلاميين وفي مقدمتهم المفكر الإسلامي أبويعرب المرزوقي الذي اتهمه مرارا بأنه موال لإيران، وبأنه من معتنقي المذهب الشيعي.
ربّما لم يقصد الرئيس لا هذا ولا ذاك، وربما كانت لحظة عفوية عبّر فيها عن مدى اهتمامه بمن هم تحت حكمه، إذن ما المشكلة التي تتسبب في كل هذا الجدل الذي يرافق كل إطلالة إعلامية أو كلمة يتوجه بها الرئيس التونسي ليخاطب شعبه؟
يبرر الكثير من الفاعلين في الساحة السياسية كل ما يوصف من “سقطات اتصالية” بأن الرئيس عفوي ووافد جديد على عالم السياسة، وأنه لم يمسك بعد بكافة تفاصيلها حين يتكلم أو حين يخرج ليعلن عن أيّ قرار سيتخذه.
لكن، مهما كان مكمن الخلل، فإنه يوجد أيضا شبه إجماع لدى خبراء الاتصال السياسي بأن العائق الذي ما زال يكبّل قيس سعيد ويضع حاجزا بينه وبين التونسيين ناتج عن السياسات الاتصالية الخاطئة التي تريد القطع مع ما سبق، لكنها ما زالت تتحسّس إلى الآن طريق الوضوح من حيث الاستراتيجيات والتطبيق على أرض الواقع.
يستدل أصحاب هذا التصور بالظهور الإعلامي الغامض لسعيد حين خرج ليعلن عن الحظر الصحي الشامل في البلاد للتوقي من كورونا، وبظهوره الآخر حين أعلن الإجراءات التي اتخذتها الرئاسة لتسيير حياة الناس في العزلة لكنها لم تشرح الآليات.
واتّسمت إطلالات قيس سعيد منذ تفشي الوباء والتي لم تتجاوز في معظمها مدة خمس دقائق بقول كل شيء، دون أن يقول أي شيء يفهمه الناس، لتتحول بياناته المدجّجة بالحماسة إلى خطابات تفتقد أبسط مقومات وأدوات الاتصال.
ما يثير أكثر، أن الصحافيين والفاعلين السياسيين أيضا باتوا لا يفهمون في كثير من الأحيان ما يقصده الرئيس الذي يواصل الإصرار على توسّل اللغة العربية بدل مخاطبة الرأي العام بما يفهم من لهجته التونسية الأقرب إلى المتلقي في وقت الأزمة.
في كل مرة يريد الرئيس التونسي الظهور على قاعدة شعاره “الشعب يريد”، لكن في كل مرة أيضا تتحول نواياه القاصدة طمأنة التونسيين إلى مصدر للكشف عن أزمة حادة في الاتصال والتواصل ما يجعل من العمل الشاق مستقبلا في أروقة قصر قرطاج ضرورة ملحة لإنقاذ مصير قيس سعيد السياسي ولإنقاذ نواياه التي تبدو صادقة لكنها تصطدم دائما بكسر أفق الانتظار عن المتلقي.