أئمة النهضة يربكون إجراءات الفخفاخ في المساجد التونسية

قرار الحكومة التونسية في منتصف شهر مارس الماضي، بإيقاف أداء صلاة الجمعة والجماعة في إطار مجابهة تفشي فايروس كورونا، وما ترتب عليه من عدم تقيد بعض الأئمة بالقرار، أماط اللثام عن الوضع المسجدي في تونس، وما يكتنفه من مفارقات متصلة بواقع الأئمة المحسوبين على حركة النهضة، والذين يتحركون وفق دوافع سياسية مضمرة تتيح لهم التمرد على قرارات وزارة الإشراف.
تونس - ألقت مجموعة من الأئمة خطب الجمعة في مساجد متفرقة من تونس تحت مبررات ظاهرها ديني بزعم الحفاظ على صلاة الجمعة ولو في مساجد محدودة بدل توقفها بالكامل “حفاظا على شعائر الإسلام”، وباطنها سياسي يهدف إلى إرباك أداء حكومة إلياس الفخفاخ التي تحظى بدعم قوي من الرئيس قيس سعيد.
ويعود تكليف خطباء الجمعة إلى وزارة الشؤون الدينية التي تمثل مركز ثقل لحركة النهضة الإسلامية، الشريك الحكومي الذي يعمل ما في وسعه للحد من إشعاع رئيس الحكومة، خاصة بعد صدى الحوار الذي أجراه الخميس الماضي في التلفزيون، والذي قرّبه أكثر من الشارع التونسي بسبب لغة سهلة وأفكار واضحة جلبتا له احتراما واسعا.
وتقول أوساط من وزارة الشؤون الدينية إن أغلب أئمة الجمعة محسوبون على النهضة، وإنه تم تكليفهم بالخطابة منذ فترة الوزير الأسبق المثير للجدل نورالدين الخادمي، وزير الشؤون الدينية الذي فتح الباب خلال فترة حكم الترويكا لدعوات الجهاد في سوريا، وما تبعها من تكوين شبكات استقطاب وتهريب لعناصر متشددة باتجاه ليبيا وسوريا.
وأقالت وزارة الشؤون الدينية التونسية ثلاثة أئمة عن مهامهم لانتهاكهم القيود المفروضة بسبب فايروس كورونا والتي شملت إيقاف صلاة الجماعة تجنبا للعدوى بين المصلين.
وذكرت وزارة الشؤون الدينية في بيان لها أنها “أنهت بصفة وقتية تكليف ثلاثة إطارات مسجدية ثبتت مبدئيا مخالفتهم لقراري الحجر الصحي الشامل وتعليق صلاة الجماعة”، مجددة حرصها على “تطبيق القرارات ذات الصلة واتخاذها كافة الإجراءات المتطلبة فورا حال بلوغ العلم بحصول أي تجاوز”. ويكشف هذا القرار عجز الوزارة المعنية عن التحكم في الموظفين المنتسبين لها وإلزامهم بقراراتها. وتُتـهم الوزارة بأنها تتساهل مع الأئمة وبقية القائمين في المساجد ولا تراقب أنشطتهم بالحزم الكافي، ما فتح الأبواب أمام سيطرة المنتمين إلى الجماعات الدينية (نهضة وسلفيين) على المساجد وأنشطتها، والترويج لخطاب متشدد في مختلف المسائل بما في ذلك الفقهية التي تتناقض مع الفقه المالكي الذي تعتمده البلاد.
وسعى سامي القاسمي مدير عام المعالم والإطارات الدينية إلى التخفيف من ردود الفعل الغاضبة على خرق قرار الإغلاق المؤقت للمساجد خوفا من انتشار الوباء. وقال في تصريح لـ”العرب” إن “الوزارة تتابع مدى تطبيق الحجر الصحي في المساجد بالولايات” (المحافظات). ولفت إلى أن الوزارة رصدت مخالفات من قبل الإطارات الدينية لقرار الحجر الصحي وأشار إلى مخالفة 4 أئمة لقرار الحجر في الأسبوع الأول منه، ومؤخرا ثلاثة أئمة، وهو ما دفع الوزارة إلى إعفائهم من مهامهم.
ونشر عدد من الأئمة فيديوهات لخطب جمعة من داخل مساجد مختلفة من تونس، في تحايل واضح على قانون الحجر، مستفيدين من إبقاء المساجد مفتوحة أمام القائمين عليها.
وتعرض هذه الفيديوهات صلاة يشارك فيها أربعة أشخاص بما “يوافق رأي الإمام أبي حنيفة” بزعم “الحفاظ على صوت الإسلام وشعائره”.
وبرر القاسمي خرق بعض الأئمة لقرار الحجر بـ”العاطفة الدينية”، معتبرا أن “هذه العاطفة وراء عدم اكتراث البعض بخطورة الوضع الصحي، في حين أن حفظ النفس له الأولوية في الدين أيضا”.
لكن متابعين للشأن الديني يعتقدون أن خرق الحظر أكبر من مبرر “العاطفة الدينية” التي يُفترض أن تصدر عن عامة المصلين، وليس عن أئمة بينهم خريجو جامعات ومتخصصون في الشؤون الدينية والفقهية، مشددين على أن الأمر مرتبط برغبة في تحدي قرار الحكومة وإظهارها في موقف ضعيف وعاجز عن السيطرة على إدارة مؤسسات تابعة لها.
وأظهرت صور تمّ تداولها في فترة سابقة على فيسبوك عددا من المصلين يؤدون صلاة الجماعة أمام بعض المساجد، في تحدّ لقرار الغلق.
وأقرت الحكومة جملة من الإجراءات الوقائية والتي تشمل المرافق الدينية في البلاد وهي حظر صلاة الجماعة والجمعة لتلافي العدوى.
وكان وزير الشؤون الدينية أحمد عظوم قال إن القرار لا يعني غلق المساجد التي ستفتح في المواعيد المخصصة للصلاة مع إقامة الأذان، مشيرا إلى أن الوزارة تعوّل على تفهم التونسيين للقرار الذي اتخذته الدولة لحماية مواطنيها، داعيا المصلين إلى الصلاة في منازلهم. ويرى متابعون أن الأمر لا يتعلق فقط بالتعصب الديني في مجتمع تونسي يحارب للحفاظ على وسطيته ونجح اختراق ممنهج لثقافته المعتدلة في زرع ثقافة وافدة غريبة عنه، وإنما بمجموعات دينية تريد تحدي السلطة وتحويل هذا الاختراق إلى أمر واقع، والسيطرة على الحياة الدينية في البلاد، حيث بات النقاب أمرا شائعا بالرغم من قرارات منعه.
وزارة الشؤون الدينية تتساهل مع الأئمة، ما فتح الأبواب أمام سيطرة المنتمين إلى الجماعات الدينية على المساجد
واعتبرت منجية السوايحي، أستاذة التفسير وعلوم القرآن بجامعة الزيتونة في تونس، أن اختراق الحجر الصحي من قبل بعض الأئمة حرام لغير المضطر، مستندة إلى الآيات القرآنية التي قالت إنها في المجال مثل “لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”.
ووصفت خرق الحجر الصحي بأنه بمثابة الانتحار الجماعي، مشددة على أن “المقاصد الإسلامية والعلماء جميعهم يساندون ما يقره الطب، فالطبيب بالنسبة لي هو دليلي، وهو ينضوي تحت سلطة الدولة حين يطالبنا بعدم مغادرة بيوتنا، فالإسلام قائم على حفظ الأرواح والتصدي لكل الأوبئة”.
وعزت خرق بعض الأئمة للحجر الصحي “إلى عدم تعمق البعض في النصوص الدينية، التي تضع مصالح الناس وحماية أرواحهم أولوية”.
وتسعى الجماعات الدينية لاستثمار أي أزمة سياسية أو اجتماعية أو صحية لتظهر في الواجهة وتسجل حضورها بهدف الاستقطاب وجلب الأنصار، وإظهارها في صورة المتحدث باسم الله والمدافع الوحيد عن الدين، وهو ما يحرك مشاعر الناس في مجتمعات عربية وإسلامية لم تختبر بعد التعدد الفكري والعقائدي، ولا تزال واقعة تحت سيطرة النظرة السلفية المتشددة للدين.
ويشير المحلل السياسي باسل الترجمان في تصريح لـ”العرب” إلى أن “ما قام به بعض الأئمة لا يخرج عن سلوك بعض الناس الرافضين للحجر الصحي الشامل واعتقادهم بأن ذلك قد يكون حربا على الإسلام ويوهمون أنفسهم بأنهم حماته”.
وقال الترجمان إن وزارة الشؤون الدينية طبقت القانون حين أعفت هؤلاء الأئمة من مهامهم، لافتا إلى أن مؤسسات الأديان التقليدية لن يكون دورها وتأثيرها بعد هذا الوباء كما كان عليه قبل ذلك.
وأضاف أنه “في خضم هذا الوباء، الذي أصاب البشرية جمعاء بغض النظر عن الدين أو العرق، تهاوت الكثير من ادعاءات رجال الدين الذين كانوا يجسدون فيها سلطتهم المجتمعية ويبررون دورهم ووجودهم، ما جعلهم يدخلون في صدام مع الدول”.