عندما تستفيد الحكومة الإثيوبية من ورقة المعارضة

تخطئ الحكومات التي تحصر مهمة المعارضة في مناكفتها سياسيا والسعي لإسقاطها، وترتكب خطأ جسيما عندما تضعها في زمرة الساعين إلى السلطة وكفى، وتجني على الوطن إذا حشرتها في خانة المخربين، وقد تستفيد الحكومات من المعارضة في بعض القضايا الخارجية. فهناك دول تخطت مطبات بتفعيلها، وأخرى أفلتت من ضغوط لوجود تيار شعبي تقوده معارضة ترفض الذهاب بعيدا في قضايا لها انعكاسات على ثوابت يصعب تجاوزها.
نجحت الحكومة الإثيوبية، جيدا، في توظيف ورقة المعارضة الداخلية في ملف سد النهضة. وكانت الحملات التي قادها رافضون لها الباب الذي استخدمه آبي أحمد رئيس الوزراء في تعامله مع المفاوضات التي تشرف عليها الولايات المتحدة بالتعاون مع البنك الدولي، بين مصر والسودان وإثيوبيا.
لم تستطع أديس أبابا استخدام مبررات فنية أو قانونية للهروب من استحقاق التوقيع على مسودة الاتفاق النهائي الذي أعدته واشنطن بعد سلسلة من المحادثات في عواصم الدول الثلاث، ثم الوصول إلى المحطة الأخيرة. تذرعت بأنها لن تتمكن من التوقيع قبل الانتخابات العامة في أغسطس المقبل، وأن ثمة معارضة رافضة للاتفاق تَصْعب فرملتها والتصدي لها.
تحولت المعارضة المزعجة والمتشرذمة في إثيوبيا والتي تعاني من مشكلات هيكلية من عنصر ضغط على الحكومة في الداخل، إلى ورقة ضغط معنوية على خصومها في الخارج. وضرب آبي أحمد جملة من العصافير بحجر سياسي واحد.
تمكن الرجل من تهدئة المعارضة وتوجيه طاقتها بعيدا عنها، والاستفادة منها لشد عضد حكومته أمام موجة عاتية من الضغوط السياسية، وتدثر بها بدلا من الصدام معها. نعم بدا متنصلا من بعض الالتزامات في المفاوضات، لكنه قد يكون نزع فتيلا لضغوط مُحتملة أكبر.
أوحى لكثيرين أنه رجل ديمقراطي يحترم رأي منافسيه، ويرعى مصالح بلد يعتقد أن الذهاب بعيدا في أزمة سد النهضة يؤثر على الأوضاع الداخلية التي إذا تعارضت مع الحسابات الخارجية كسبت الأولى، ومنحت صانع القرار احتراما قد يقلل من التأثيرات السلبية لرفض التوقيع على المسودة، وما حملته بعض التلميحات من معان تصب في خانة التهديد والوعيد. ومن هنا وفرت المعارضة في هذه الأزمة غطاء إيجابيا ربما يساعد في تقليل الخسائر، ويساهم في حصد مزايا على مستويات مختلفة.
ظهر آبي أحمد كمنفتح على الجميع منذ توليه رئاسة الحكومة قبل نحو عامين، وحاول بناء إثيوبيا على قواعد جديدة تقلب الطاولة على الطبقة القديمة التي تريد الاستئثار بالسلطة. فوجد أن المعارضة يصعب احتواؤها بطريقة ناعمة أو حتى خشنة.
لم تنطل الطريقة الأولى على البعض وتستوجب تقديم تنازلات في مرحلة لا تزال فيها الشعوب الإثيوبية تطغى عليها نظرة شوفينية. وتفضي الطريقة الثانية إلى المزيد من الارتباك والاحتراب الأهلي وسط بيئة غير ناضجة سياسيا، وتؤمن بالمناطقية والقبلية والإثنية ولم تبارح بعد الذهنية الفئوية.
جاءت تداعيات أزمة سد النهضة كطوق نجاة، وهي التي تحولت من البداية إلى منقذ لحكومات سابقة. ولم يشذ آبي أحمد عن هذه القاعدة، وضرب باستعداده لتصفير أزمات بلاده الخارجية، بما فيها الأزمة مع مصر عرض الحائط. فقد فرض الواقع وطقوسه عليه المنهج ذاته، وكانت كلمة السر هي المعارضة التي لم تتوقف جهودها في المزايدة على أي ليونة في ملف السد الذي تحول إلى وسيلة للم الشمل، ومن يفرط فيها يحكم على نفسه بإنهاء مستقبله السياسي.
شدت المعارضة في إثيوبيا من عضد الحكومة الحالية، وعصمتها من تقديم تنازلات. ومع الخطورة التي يمثلها الضجيج الذي تمثله في بلد حافل بالقوميات والعرقيات، إلا أنها توافقت على سد النهضة واعتبرته خطا أحمر، وتركت لها الحكومة المجال لرفع صوتها وتفريغ طاقتها فيه، بدلا من توجيه شحنتها الغاضبة إليها. وهو ما يفسر الصخب المتصاعد في إثيوبيا حول ملف السد منذ فترة، حيث تُركَ المجال لجهات متباينة للتعبير عن موقفها بصرامة.
كنّا في مصر نتعجب من تصريحات قوى متعددة في الحكومة والمعارضة، لا تتوانى عن التغني بسد النهضة. قرأنا وسمعنا وشاهدنا شخصيات تدافع عنه بضراوة، وتتعمد المبالغة في التصعيد وتوجيه انتقادات قاسية للحكومة المصرية دون أن تعبأ بالمنطق الذي تتبناه القاهرة التي بدت مبالغة أحيانا في حذرها، وكاد الكلام عن إثيوبيا أو سد النهضة يصبح ممنوعا.
كان المنع مباشرا، وضمنيا في بعض الأحيان. وعاش الإعلام في مصر حالة من الصمت، بالغ فيها بعض العاملين، طواعية، قبل أن تُلقى عليهم تعليمات وتوجيهات رسمية. بالتالي أسهم غياب المعارضة في إلحاق أضرار بالغة بالمصالح الوطنية، وفِي مقدمتها سد النهضة.
لا يعني ارتفاع صوت المعارضة في إثيوبيا أن هناك رفاهية وحرية سياسية وديمقراطية، ولا يعني انخفاض صوتها وجود العكس في مصر. لكنه يؤكد القدرة على استخدام كل الأدوات الممكنة عندما تلامس التحديات عَصب الأمن القومي. والمياه في البلدين من هذا النوع الذي يستوجب تكاتفا وتلاحما وحنكة في توزيع الأدوار.
تُعدُّ المعارضة واحدة من الأدوات الرئيسية في السلم والحرب. فهي ورقة يستطيع صانع القرار الارتكان إليها عند الضرورة، ويمكن أن تكبحه إذا خرج عن الصف، أو فكر في ذلك لحظة، بصرف النظر عن مساحة الهامش الديمقراطي الحقيقي. فالدول تحترم من يحترمون الخصوم الذين لديهم توجهات تقدّر الحريات. ولأن المعارضة عنوان أساسي في هذا الباب أصبح الانسياق خلفها محل تقدير ومكافأة، وليس عقابا.
تفطنت الحكومة الإثيوبية إلى هذه المعادلة، ولم تلتفت إليها نظيرتها المصرية، وكانت لدى الأولى وسيلة تعتمد عليها عندما يزداد الخناق حولها، بينما تجاهلتها وكبحتها الثانية وكان بإمكانها أن تتحول إلى سند لتبني رؤية متشددة.
ولم تؤدّ الليونة الظاهرة على موقف المفاوض المصري إلى النتيجة المرجوة. فالدبلوماسية إحدى أدوات السياسة الخارجية وليس كلها. لذلك فالتشدد الإثيوبي الحالي يتسق مع جملة مواقف المعارضة، في حين لجوء القاهرة إليه لاحقا سوف يكون خارجا عن السياق العام الذي تحركت من خلاله سابقا.
أفاد سلاح المعارضة الحكومة في حربها السياسية مع مصر وجعلها تحصل على أكثر مما تتوقع، وخففت جانبا من الضغوط المتوقعة من قبل واشنطن، وحتى لو لجأت الإدارة الأميركية إليها سوف تربح أديس أبابا مرتين؛ مرة لأنها تدافع عن مشروع تنموي وطني وتحظى باصطفاف شعبي كبير. والثانية أنها لو رضخت للضغوط ستبدو كمن تدافع عن المصالح، وكي تحافظ على ذلك اضطرت إلى تقديم تنازلات.
يستغرق الوصول إلى النتيجة الثانية وقتا، يكون آبي أحمد قد تجاوز عملية البدء في ملء خزان سد النهضة في يوليو المقبل، وانتهى من الاستحقاق الانتخابي بعده بنحو شهر، ويخرج منتصرا وقويًّا في الموعدين، بما يساعده على المزيد من التشبث بالرؤية التي يتبناها حاليا، ويحصل على تأييد فئة من معارضيه رأت فيه من قبل رجلا متساهلا أكثر من اللازم.
تقدم المعارضة الإثيوبية درسا مهما للحكومة المصرية بشأن ضرورة أن تشرع في خطوة الإصلاحات السياسية، فالمعارضة ليست شرا على طول الخط. ففي المحن والأزمات وما أكثرها سوف تكون رديفا، لأن فكرة الطابور الخامس تراجعت من القاموس العام، وعلى وشك أن تختفي تماما في غضون سنوات قليلة. ويصبح مقياس المعارضة الراشدة وحدود حركتها والتجاوب مع تطلعاتها في مقدمة الأدوات للحكم على الأنظمة والتعاطف معها في الأزمات.