البُردة والصليب قصيدة ولوحة

بالموازاة مع صعود موجة المدائح النبوية في الزمن الراهن، لفت الانتباه باستمرار تقليد رسم المسيح ونحته، وتصويره، اقترنت الظاهرة الأولى ذات الطبيعة اللفظية بالعودة المتسارعة إلى جماليات تقليدية، غير أنها اقترنت أيضا بتحولات ثقافية واجتماعية كانت القصيدة تعبيرا خطابيا عنها، بينما اتصلت الثانية بمراجعة بصرية لفكرة المسيح وصورته، وما يرتبط به من رمزيات، هو الذي بات محصورا اليوم في متاحف وكاثدرائيات ودور بسطاء.
في السنوات الأخيرة قدمت الفنانة الأردنية هيلدا حياري صيغة بصرية جديدة للسيد المسيح، تبرز رؤية تأملية مرحة لابن الناصرة الفلسطيني، حيث قدت هالة النور في خلفية الوجه من عبارات عربية باللون الأزرق، ورسمت المسيح معتمرا ما يشبه كوفية فلسطينية بألوان هيلدا القوية الصاعقة، المالئة للعين، من الأخضر إلى الأصفر والبني والبرتقالي، لتعيد إسكان المسيح في تعابير حداثة بصرية متمردة ونافذة.
ولم تكن لوحة هيلدا حياري بعيدة عن قصيدة الشاعر المصري/ الفلسطيني تميم البرغوثي في مدح الرسول محمد عليه السلام، وقد اختار لها التسمية التراثية المأثورة “البردة” التي اجتباها الإمام شرف الدين البوصيري عنوانا لقصيدته أواسط القرن الثالث عشر، قبل أن يتبعه الشاعر الحديث أحمد شوقي مطلع القرن الماضي.
وفي تبيين سياق هذا الاختيار الشعري يرى تميم أن القصيدة معارَضة لكل من قصيدة الإمام شرف الدين البوصيري، المعروفة بـ”الكواكب الدُرِّيَّة في مدح خير البَرِيَّة”، أو “البردة”، ومطلعها “أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرانٍ بِذِى سَلَمِ، مَزَجْتَ دَمْعَاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ”، وقصيدة أحمد شوقي، التي عارض بها قصيدة البوصيري وأسماها “نَهْجَ البُرْدَة” ومطلعها “رِيمٌ عَلَى القَاعِ بَيْنَ البَانِ وَالعَلَمِ، أَحَلَّ سَفْكَ دَمِي فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ”.
والمعارضة هنا بتعبير الشاعر “تحية من اللاحق للسابق”، وهي، حتى بعد الاعتراف بالفضل للمتقدم تبقى عملا فيه قدر من المخاطرة، لأن فيها شبهة مما سماه أحمد شوقي نفسه “تجاوزا للقدر”، ولأنها نص يعتمد في جزء من معناه على الأقل، على نص سابق له، فلا يكتمل معناه إلا بمعرفة القارئ للنص الأول، ثم هي مخاطرة لأن كتابتها، في زمننا هذا، ربما تشكل تحديا لمنهجين سائدين في الثقافة العربية، تكون عند أولهما تمرُّدا على الحداثة، وعند الثاني “تجرؤا على التراث”.
ويرى تميم أن ثمة أقدارا متشابهة باعثة على كتابة البردة، فقد شهد البوصيري اجتياح المغول للبلاد العربية وسقوط بغداد ودمارها، مثلما شهد شوقي احتلال البريطانيين لمصر وللبلاد العربية، ويشهد تميم اليوم اجتياح الأميركان ثم الروس والأتراك والإيرانيين البلاد العربية، وتتجلى القصيدة بوصفها خطابا مشفرا لأمة غارقة في نكباتها.
إنها تكوين قولي، إذن، يناظر ذلك البَصَري الذي جعل اللجوء لتصوير المسيح عبر قرون يتحول إلى شاهد على تحولات العقيدة والمزاج والأسلوب والرؤية إلى العالم: “المسيح في المهد”، و”المسيح مصلوبا”، و”المسيح حاملا صليبه”، و”المسيح في قيامته”.. تجليات متساندة لصورة عصية على التملك والفهم؛ تتراسل منذ قرون طويلة، مولدة تشكيلات شتى لسيد المسيح: مسيح نهضوي، وآخر قوطي، وثالث باروكي، ورابع رومانسي، وخامس واقعي تأمليّ، وسابع تعبيري ساخر. عبر العشرات من اللوحات الفاتنة من أجيليكو إلى ماتياس غرونيوالد، ومن بيتر بول روبينس إلى باولو دي لافرانسيسكا، مرورا ببرامانتينو وميكيل أنجلو ودافينشي ورامبرانت.
في مقطع من رواية “الأبله” لدوستويفسكي يتحدث الأمير مشكين عن لوحة تمثل المسيح فور إنزاله من الصليب، لا نعرف من رسمها، لمحها البطل في إحدى صالات بيت روغوجين، ويقول بصدد إيحاءاتها ما يلي “إنها تصوير كامل لجثمان إنساني يعبّر عن جميع العذابات التي لا حدود لها مما احتمله حتى قبل صلبه… وجه إنسان أنزل عن الصليب منذ برهة، إنه لا يزال يحتفظ بكثير من الحياة والحرارة… آلام المسيح لم تكن رمزية بل واقعية، جسمه وهو على الصليب كان يخضع لجميع قوانين الطبيعة… كانت اللوحة تمثل وجها شوهته الضربات تشويها فظيعا”.
وبالتأكيد لن يكون هذا المسيح المشوه هو ذلك الملوّن الطّافر من محياه شعاع الروح الناعمة المطمئنة إلى ارتقائها، والمنكفئ على وجعه، في لوحة هيلدا حياري المرحة، غير أنه كان وجهه الممتد والمسترسل في ثنايا الاعتقاد والتوق.
يمكن أن نتحدث هنا عن تقاليد متقابلة في التعلق بصورتي السيد المسيح والنبي محمد، تُبرز فيها الثقافتان الإسلامية والمسيحية انحيازاتهما الفنية والأسلوبية، لا يمكن أن نتمثل اليوم السيد المسيح إلا من حيث هو تمثيل حسي جسداني مخترق للموجات التعبيرية، والنبي محمد عليه السلام إلا من حيث هو مجازات لفظية عابرة للتجارب الشعرية، إنما ثمة أيضا نسغ روحي كامن في الروح الجماعية المتطلعة لاستمرار تشكيلات المسيح ومجازات الرسول وهي التطلع إلى السكينة واستنقاذ الأمل، لم يفتأ الصليب على رؤوس الأسرّة، مثلما ظلت البردة حرزا لدى البسطاء، ممن اعتقدوا دوما أنها لو وضعت على عيني كفيف لأبصر، وعلى رأس محموم لشفي، وعلى بطن حامل لوضعت ولدا معافى طويل العمر.