قراصنة العثمانيين بين "باشاغا" و"خيرالدين"

مع أولى ساعات 2020 “حرق” رجب طيب أردوغان ذراعه الليبي فتحي باشاغا، وزير الداخلية بحكومة الوفاق . باشاغا حذر خلال مؤتمر في تونس، الخميس 26 ديسمبر 2019، من أن “منطقة شمال أفريقيا بأكملها مستهدفة وليس طرابلس فقط، إذا سقطت طرابلس ستسقط تونس العاصمة والجزائر” في يد المحور العربي الذي يضم الجيش الوطني الليبي مدعوما من معظم شعبه ومصر والإمارات.
باشاغا الذي استنجد بعد ساعات من تصريحه بأردوغان لينقذ ميليشياته من تقدم تدريجي للجيش الليبي، لم ينتبه إلى أنه يحيي ذاكرة سقوط العواصم الثلاث التي ذكرها قبل 500 عام تحت الاحتلال العثماني، وقبلها الشام ومصر، ما أغرق الأمة العربية في “ثلاثة قرون من الجهل، عطلتها عن نهضة فكرية توازي ما شهدته أوروبا”، وفق تقدير طه حسين.
في اتصاله بجنود له يشاركون في احتلال وتتريك شرق سوريا مهنئا بالعام الجديد، حسب وكالة الأناضول، تعهد أردوغان بأن “يحقق جنودنا في المتوسط ملاحم بطولية كالتي حققها خيرالدين بربروس، سيواصلون كتابة الملاحم التي كتبها”. بربروس، هو درة القرصنة البحرية العثمانية التي بدأت باحتلال الجزائر ثم طرابلس مختتما بتونس. ناقض أردوغان تحذير باشاغا.
نسخ تاريخي
قبل 500 عام، بدأ الزحف التركي من شمال شرق المتوسط، سوريا، وتدحرج مُنكّلا بباقي الشام حتى استقر في مصر معتمدا منذ بدايته على الاختراق والخيانة ومستغلا، دائما، ضعف الدولة. مدّ احتلاله لشمال أفريقيا حتى حدود مراكش بسلاح الجريمة البحرية التاريخية، القرصنة، مفتعلا شعارا مقدّسا يتستر به “الجهاد البحري”.
بعد 500 عام، عدّل هدفه من الاحتلال المباشر للهيمنة. بدأ من سوريا بنفس مدرسة الخيانة، الإسلام السياسي بدلا من المماليك، تحت شعار مقدس مماثل، الجهاد. لم يستطع أن يكمل تدحرجه في باقي الشام لوجود كيان غربي/إسرائيل يفصلها عن مصر، وفشل في الأخيرة بعد أن أطاح شعبها وجيشها بحصان طروادته “الإخوان” في 30 يونيو. جنون عظمته منعه من التراجع، متوهما قدرته على استعادة شواطئ جنوب المتوسط، وداعما “الجهاد البحري” بنظير له بري، حالما بمد رايته من طرابلس/مصراتة إلى تونس ثم الجزائر، تماما كما فعل قبل 500 عام، وكما نشط ذاكرتنا القومية أردوغان وباشاغا معا.
في خطاب رسمي للأمم المتحدة ممهدا لمذكرة التفاهم مع فايز السراج، استخدم أردوغان تركيبة لغوية استحضرها من النشاط الأبرز لأسلافه “الوطن الأزرق”، يقصد به مياه المتوسط الزرقاء التي جالوا فيها قرصنة حتى ارتبطت بهم “مهنة القرصنة” في البحر الذي يتوسط العالم القديم.
يعود أقدم توثيق للقرصنة في البحر الأبيض للقرن الـ14 قبل الميلاد، وعرفتها شعوب الأناضول بعد 13 قرنا مهددة تجارة الإمبراطورية الرومانية في شرقه، واحتل قراصنتها قبرص وكريت، وظلوا لأربعة قرون نشطين في قرصنة سفن بحار المتوسط وإيجه والأسود ومرمرة وموانئها. وتتابعت سيطرة شعوب أوروبا على مهنة القرصنة لقرون، كانت عصورا وسطى بلا مركزية غربية.
قبل السفن العثمانية، لم تشارك شعوب الخارطة العربية في القرصنة، باستثناء المغاربة. فمن عام 824 إلى 961 سيطروا على جزيرة كريت ومنها نشطوا في كامل المتوسط، وفي عام 911، لم يستطع أسقف أربونة العودة إلى فرنسا لأن قراصنة “فرخشنيط” سيطروا على ممرات جبال الآلب. المغرب الذي كان أول دولة تعترف بالولايات المتحدة عام 1777، أصبح أول قوة تقرصن سفينة تتبع الجمهورية الأميركية الوليدة عام 1784. نشاط القرصنة المغربي، من بين أسباب متعددة، حمى مراكش من الاجتياح التركي.
خيرالدين بربروس (1478 – 1546م) الذي صدّره أردوغان كرمز تاريخي، تروجه الرواية الرسمية لأنقرة كـ”مجاهد إسلامي” وبطل قومي تركي و”فاتح الجزائر” مرتين! وفق مذكراته، هو خضر بن يعقوب، ولد في جزيرة ميديلي اليونانية.
وتقول رواية إن بربروس من أسرة مسيحية واسمه الأصلي “خسرو”، والرواية تتفرع إلى روايات متعددة حول تحوله إلى “خيرالدين”. منها أنه أسلم مع إخوته ليحتموا بالدولة الحفصية في تونس، ورواية أخرى تقول إنه ألباني الأصل. وتتمسك سردية أنقرة بأن أصوله تركية، وأن الأب استقر في الجزيرة اليونانية وتزوج منها.
اشتهر شقيقه عروج أوروبيّا بـ”بارباروسا” أي “ذو اللحية الزعراء”، وحين قتل انتقل اللقب لخيرالدين، وقتل شقيقان لهما، إسحاق وإلياس، في معركتي قرصنة مختلفتين. وفي مذكراته يورد خيرالدين قصة “هوليوودية” عن هرب عروج من أسر قراصنة أوروبيين.
في تاريخ القرصنة، يفرق الباحثون بين نوعين منها، حرة وتفويضية. في الثانية تفوّض دولة ما ناشطين فيها بممارستها نيابة عنها. بدأ الإخوة بربروس مسيرتهم بسفينتين حربيتين من إهداء الأمير العثماني أحمد قورقود ابن السلطان بايزيد الثاني لعروج، و”وصّاه أن يبحر غربا لينظر في أوضاع المسلمين الذين يُضطهدون من الإسبان في الأندلس”!
مجرّد فبركة ذاتية لخيرالدين، فلم يفعل سوى القرصنة التجارية واسترقاق ما قدّرته دائرة المعارف البريطانية بمليون إنسان، غالبيتهم أوروبيون، وبينهم عشرات الآلاف من المسلمين، وفق تقلبات مصالح الأستانة. فحسب وصف المؤرخ بيتر إيرل كان “افتراسا بحريا متبادلا، أساطيل تنهب بعضها البعض”. وعلى مياه المتوسط، تقاطعت تحالفات رافعي شعار “الجهاد البحري” مع “الكفار”، كما تم توصيفهم، ووصف “الكفار” وفق القاموس العثماني وقتها شمل مصر والشام ودولا عربية أخرى، كتبرير لاحتلالها.
روايات متضاربة
مع تقاتل ابني بايزيد الثاني، قورقود وسليم على عرش الأب المتوفى عام 1512، ومع تغلب الثاني، منع الإبحار في مياه الأناضول وموانيها، ليحمي حكمه الوليد من قراصنة أخيه المهزوم. هرب الأشقاء بربروس ثانية إلى حماية الدولة الحفصية في تونس التي كانت تحكم شرق الجزائر(1513 – 1514)، فسمحت لهم باتخاذ ميناء حلق الوادي مركزا مقابل ثمن الغنائم.
بالتزامن، غرقت الدولة الزيانية التي تحكم غرب الجزائر في الفوضى، والإسبان يهيمنون على أغلب الموانئ. حاول الإخوة احتلال موطئ قدم لهم على شاطئ الجزائر ليستقلوا عن تبعية تونس، وبعد ثلاث محاولات فاشلة نجحت الرابعة عام 1516 في احتلال “جيجل”. رفضوا عرض الملك الحفصي محمد المتوكل بالحماية من الإسبان وأرسلوا وفدا لنيل رضا سليم، مارس 1516، عارضين تبعية إمارتهم الجزائرية لعرشه، فرحب ودعمهم بسفن حربية وذخائر وأموال وبغطاء سياسي، لكنه لم يتدخل لإنقاذ إمارتهم حين أعاد الإسبان احتلالها بعد عامين، مستغلين ثورة مدن جزائرية عديدة على البطش التركي.
قتل عروج وعاد خيرالدين للأناضول، ولحسابها احتل رودس سنة 1522، وأعاد احتلال الجزائر عام 1529، وأكمل انقلابه على الدولة الحفصية، التي آوته خلال أعوام غضب سليم عليه، محتلا تونس سنة 1531.
تقدم المرويات التركية قراصنتها كحالة “جهادية صرفة، مجاهدين” يتفوقون في طهرهم على صحابة الرسول! لم تورد، مثلا، ما وثقه الباحث الجزائري محمد الميلي في الجزء الثالث من كتابه “تاريخ الجزائر القديم والحديث”، من أن الشيخ سالم التومي الذي دعا الترك كمسلمين منقذين لمسلمين، ذبحه عروج بيديه في حمام منزله وسط صراخ حريمه وأطفاله، وخرج معلنا نفسه سلطانا. نفس ما فعله حرفيا مع أبي زيان الثالث في تلمسان، وغيرهما. ومع “الفتح” الثاني للجزائر، دشن شقيقه خيرالدين وخلفاؤه، سلاسل مذابح طالت آلافا من الجزائرين، كما فعل مواطنوه الترك بالتوانسة والليبيين.
يذكرنا فتحي باشاغا وإخوانه بخيرالدين بربروس وإخوته، كلاهما ذراع لقراصنة العثمانيين.. قدامى وجددا.