هل تتناسب مخرجات التعليم مع سوق عمل متغيرة

يجد شباب اليوم نفسه في مفترق الطرق بين سوق عمل تتجه بسرعة نحو الرقمنة وتوظيف الذكاء الاصطناعي في شتى المجالات، وبين تعليم لا يمده بالمؤهلات العلمية اللازمة، ويستهلك من حياته وقتا طويلا، دون أن يتمكّن من التأقلم مع حاجيات هذه السوق. هذه المشكلة يعاني منها جيل الشباب في جل أنحاء العالم، لكن وطأتها أكثر حدة على الشباب العربي الذي يمضي سنوات في استهلاك برامج تعليمية متقادمة لا يستجيب معظمها لمتطلبات العصر، ويتحصل في النهاية على شهادة علمية تؤهله للبطالة أو لتضييع سنوات أخرى في عمل بعيد عن تخصصه العلمي وطموحاته.
تونس – اختيار التخصص العلمي في الجامعات العربية أو الدولية بات مسألة جدّ شائكة يواجهها الشباب اليوم، حيث يجد نفسه في حيرة بين طموحاته ورغباته الشخصية وبين المدة التي يفترض أن يقضيها في التخصص الذي يريد، أو في التخصص الذي تسمح له به نتائجه في سنوات التعليم الماضية، وبين المهن والاختصاصات التي تحتاجها سوق العمل.
وتثير مسألة مراجعة وتجديد برامج التعليم في الدول العربية لتتلاءم مع ما يفرضه عصر التكنولوجيات الحديثة وعصر الذكاء الاصطناعي الكثير من الجدال والنقاش بين المختصين وأصحاب القرار. ويؤكد الخبراء في التشغيل والتعليم أنه لا بد من البحث عن برامج تعليم تكون قادرة على مواكبة التطورات العلمية المتسارعة في العالم، ووضعها في نظم تعليمية تأخذ في الاعتبار حاجات سوق العمل المستقبلية من حيث نوعية التكوين والمهن المطلوبة لكن دون جعل الطالب يخسر سنوات طويلة في التعلم فيصبح مؤهلا بشكل مبالغ فيه لكن في اختصاص واحد منغلق لا يسمح له بالانفتاح على اختصاصات أخرى يمكنه الاشتغال فيها.
وتعاني معظم الدول العربية من نقص في اختصاصات تعليمية ووظيفية معينة ليس فقط المرتبطة منها بآخر ما توصلت إليه العلوم والتقنيات الحديثة بل أيضا في اختصاصات تتطلب قدرة عالية على التعامل مع الأدوات المعلوماتية وأيضا في الاختصاصات التي توفر خريجين قادرين على العمل في مجال الصناعات فأغلب المجتمعات العربية تقوم أسواقها اليوم على الأعمال الخدمية والمكتبية بالدرجة الأولى، بينما تكاد تختفي منها الصناعات بأنواعها.
وقد يضطر الطالب إلى قضاء ما بين ثلاث وخمس سنوات وأكثر في مرحلة التعليم العالي في تخصص علمي يتكدس فيه الخريجون العاطلون عن العمل الذين لا تخول لهم شهائدهم المبادرة بفتح مشاريع خاصة تتوفر، ولو نسبيا، على ضمانات النجاح، وبعد التخرج والحصول على الشهادة الجامعية فإما أن يجد خريج الجامعات العربية نفسه يتذيل طابور العاطلين عن العمل وإما أن يضطر إلى العمل في مجال بعيد عن تخصصه العلمي ولا يتطلب ذاك القدر من التعليم الذي بذل فيه سنوات شبابه.
ويرى الباحث التونسي في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد، أنه “مع تعالي الأصوات المشككة في كفاءة منظومة التربية والتكوين خصوصا مع صعوبة اندماج المتمدرسين والمتعلمين في سوق الشغل، ومع غياب اليد العاملة الماهرة والمختصة في خارطة المتخرجين من المعاهد والكليات، يبدو أنه من الضروري طرح موضوع الملاءمة بين التكوين والتشغيل اليوم، خاصة بعد رصد حالة الانفصال بين نتاج التعليم الرسمي ومتطلبات سوق العمل، وضعف التنسيق والتخطيط للتعليم والتخطيط للقوى العاملة”.
وفي حين يشهد نظام التعليم والتكوين في تونس والعديد من الدول العربية تغيرا يسير بنسق بطيء يحدُث التغيير في طبيعة المهن ومتطلبات سوق العمل بشكل سريع ومستمر.
ويردف الباحث “التعليم والتكوين قطاع اجتماعي ركيزته الأساسية البشر وبالرغم من اعتماده واستخدامه المكثف لأدوات التكنولوجيا إلا أن نتاجه الإنسان، وهنا تبرز إشكالية التنسيق والربط بين التعليم العالي وعالم العمل. ففي ما مضى كانت الجامعة ومنظومات التكوين تعد القوى العاملة للقطاعات الاقتصادية التي تتميز بكثافة الاعتماد على القوى البشرية، إلا أنها أصبحت اليوم مطالبة بمجاراة قطاعات اقتصادية يكثر فيها الاعتماد على أدوات التكنولوجيا الحديثة”.
ويشير بالحاج محمد إلى أن الجامعة اليوم مدعوة لتجديد وتنويع قوة العمل على الصعيد الكمي والنوعي للتصدي للحاجيات الجديدة للمجتمع والاقتصاد ومقابلة التطلعات الاقتصادية والثقافية لعدد متزايد من الأفراد وبالتالي تصبح مسألة التكوين وفق متطلبات السوق عملية معقدة ومتجددة باستمرار في حين تشهد منظومات التكوين ركودا وبطءا. فلقد تحولت التربية اليوم من مجرد تناقل للمعارف السابقة وتلقينها، إلى عنصر أكثر تعقيدا يرتبط بسوق الشغل ومتطلبات الاقتصاد. فالمدرسة والجامعة اليوم يجب أن تعكسا أكثر من أي وقت مضى التطورات التي تحدث في المجتمع وفي الاقتصاد وتقوم بسد احتياجاته ومتطلباته.
وتقول أحلام بن طاهر، عاطلة عن العمل ومتحصلة على شهادة ختم المرحلة الأولى من التعليم العالي في اختصاص الحقوق وعلى شهادة في التصميم من مدرسة خاصة، “أمضيت سنوات في الجامعة أدرس اختصاص الحقوق ورسبت مرات في المرحلة الأولى بسبب كثرة المواد التي درستها واعتمادها جميعا على الحفظ، وبعد تلك الفترة قررت أن أتوقف عن الدراسة لأنني أدركت واقع هذا الاختصاص الذي تغلب البطالة على المتخرجين فيه، فإما أن تتم من 5 إلى سبع سنوات لتتمكن من ممارسة المحاماة أو القضاء أو التدريس بالجامعة وإما أن تتحصل على الأستاذية بعد أربع سنوات وتنتظر عدّة سنوات أخرى من البطالة”.
وتضيف الشابة الثلاثينية لـ”العرب” لقد “أمضيت سنوات بطالة عن العمل ثم قررت القيام بتكوين آخر في مدرسة خاصة في اختصاص يتصل بالإعلامية والتصميم الفني، لأنه يبدو مطلوبا في سوق الشغل، وها أنا أبحث عن عمل مجددا لكن بشهادة لم تستغرق مني سوى بضعة أشهر وتبدو واعدة من حيث فرص العمل”.
تعتبر أحلام أن مسألة إيجاد عمل والنجاح فيه ليس مشروطا بسنوات طويلة في دراسة اختصاص واحد بل إن الأفضل في نظرها خلق اختصاصات علمية جديدة تواكب تطورات سوق العمل وحاجياتها ولفترات تعليمية قصيرة، وفي نفس الوقت تمكن المتحصلين على شهائد فيها من ممارسة العديد من المهن حيث تكون منفتحة من حيث التكوين ومن حيث التأقلم مع سوق الشغل.
وتتشابه حالة أحلام مع الكثير من خريجي الجامعات التونسية الذين تدفعهم البطالة إلى القيام بتكوين آخر وعادة ما يكون في مدارس خاصة للحصول على شهادات أخرى في اختصاصات جديدة تبدو في نظرهم واعدة من ناحية الحصول على عمل أو فتح مشاريعهم الخاصة.
فيما يبحث غيرهم عن عمل شبه يائس من توفر الفرص بالشهادة التي تحصلوا عليها، وآخرون يقبلون بأعمال ومهن لا تناسب مستوياتهم التعليمية وبعيدة عن تخصصهم فقط لتوفير مورد رزق يحفظ كرامتهم.