فرنسا تتطلع لقيادة أوروبا المنقسمة

للوهلة الأولى يبدو الاتحاد الأوروبي متماسكا ومنسجما في سياساته الداخلية والخارجية، لكن الأمر ليس كذلك تماما، فأوروبا قاطرة تقودها خلافات عميقة وطموحات أحادية تغذيها دوافع أغلبها استراتيجية. فباريس ذات الثقل السياسي تسعى لقيادة هاته القاطرة وبرلين ذات القوة الاقتصادية تكبح الرغبات الفرنسية، أما بريطانيا فلم تعد جزءا من اللعبة بعد أن اختارت الانفصال عن حاضنتها الأوروبية. إذا فالأمر سباق يبدو أن لفرنسا الآن فرصة لكسبه.
بروكسل - فقدت العلاقات بين باريس وبرلين زخمها بعد أن أهمل تحالف اليمين الوسط بزعامة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ديناميكيات انسجام المواقف. فقد اعتادت هذه العلاقة أن تلعب دور المحرك للتكامل الأوروبي، وهو دور سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليحفظه، خاصة على مستوى الجبهة الاقتصادية والسياسية، منذ أن أصبح رئيسا لفرنسا.
ويفرح ضعف العلاقات الفرنسية الألمانية بعض حكومات الاتحاد الأوروبي الأخرى، بما في ذلك حكومة بولندا وبعض دول شمال أوروبا حيث يرى هؤلاء في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي منح المزيد من النفوذ إلى برلين وباريس داخل الكتلة على حساب الدول الأصغر.
وإذا لم تعمل برلين وباريس معا لتوجيه الاتحاد الأوروبي الذي يحتاج للتأقلم مع التحولات الجيواستراتيجية العالمية، ولسد الثغرات الخطيرة في سياسة الأمن والدفاع في أوروبا، فمن هي الحكومات التي ستقدر على تحمل هذه المسؤولية الهامة؟ أصبح الاتحاد الأوروبي أضعف نتيجة عدم توافق برلين وباريس. وذلك يصب في صالح روسيا والصين.
بسبب تراجع حكومة ألمانيا ومعضلة بريكست، تستعد فرنسا، التي تعيش أزمة داخلية، لتولي دور أكبر في شؤون الاتحاد الأوروبي مع نمو رغبتها في إظهار أوروبا كطرف أكثر تكاملا وسط تزايد حدة المنافسة الأكبر مع الولايات المتحدة والصين وروسيا. ومع ذلك، ستواجه البلاد عوائق كبيرة، حيث لا يعدّ الجميع في أوروبا مستعدين للوقوف في صفها.
في مايو 2017، أصبح إيمانويل ماكرون رئيسا لفرنسا. بعد عامين ونصف العام من توليه للحكم، أصبح الرئيس يتمتع بفرصة يمكن أن تحوله إلى قائد للاتحاد الأوروبي. على أرض الواقع، تقف فرنسا على حافة أكبر دور في الكتلة، حيث تتعامل الأطراف الأخرى مع قضاياها الخاصة مما شتت تركيزها الذي كان موجها نحو التكتل.
تركز ألمانيا التي كانت زعيمة قوية في الاتحاد الأوروبي على عدد من القضايا المحلية التي تهم حكومتها، بينما أصبحت المملكة المتحدة التي تعد ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا في طريقها للخروج من التكتل. ومن جهته، ينمو الاقتصاد الفرنسي بوتيرة جيدة مما يعطي باريس شرعية افتقرت إليها في الماضي.
خلقت هذه العوامل فرصة غير مسبوقة لفرنسا لكنها ستقيدها في نفس الوقت، إذ يواجه ماكرون معارضات أجنبية ومحلية لرؤيته. وعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية التي بذلها الرئيس الفرنسي، من المرجح أن يبقى تأثير مساعي باريس التي تطمح إلى إعادة تشكيل القارة في مجالات تتراوح من الدفاع إلى التمويل، متواضعا.
خلاف ألماني فرنسي

يرى الرئيس الفرنسي أنه يجب أن ينشئ الاتحاد الأوروبي مؤسسات مركزية قادرة على الدفاع عن المواطنين ووضع معايير تنظيمية مشتركة ويؤكد أن الاتحاد الأوروبي ليس مجرد سوق، رغم أن التجارة هي التي جمعته.
ويعتبر الرئيس الفرنسي إصلاح السياسة المتعلقة بالمنافسة الداخلية والتجارة الخارجية أمرا ضروريا. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد على ضرورة تعزيز أوروبا لسياسة ضريبية موحدة وقياسية، مع سياسة عبر وطنية لحماية العمال.
في ما يتعلق بالدفاع، يقترح ماكرون إنشاء هيئة أوروبية لحماية الديمقراطيات، وإرساء قوة لحماية حدودها، وهيئة مختصة في اللجوء السياسي، ومجلس أمن داخلي، ومجلس آخر للأمن الدولي.
وطالبت باريس بمزيد من التكامل العسكري في أوروبا، حيث ترى أن القارة لا يمكن أن تعتمد على حلف الناتو (قال ماكرون إنه مات سريريا). لكن، تنظر الدول الأعضاء في وسط أوروبا وشرقها إلى الحلف والولايات المتحدة باعتبارهما الحاميين ضد العدوان الأجنبي، مما يعني أنها تعارض أي خطط قد تهدد روابطها بهما. وفي حين زاد الاتحاد الأوروبي من تمويله للمشاريع المشتركة في صناعة الدفاع في السنوات الأخيرة، يبقى إنشاء “جيش أوروبي” هدفا بعيد المنال.
البيئة الجيوسياسية في أوروبا تشهد عددا من التغيرات، مما خلق فرصا لفرنسا كي تصبح أكثر نشاطا في تسيير الأمور
في المقابل اقترحت أنغريت كرامب كارينباور التي انتخبها حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي الحاكم في ألمانيا زعيمة له، رؤية بديلة للتجمع الأوروبي. وتعتبر “المركزية الأوروبية، والدولانية الأوروبية، وجمع الديون، وإضفاء الطابع الأوروبي على النظم الاجتماعية والحد الأدنى للأجور” طريقة خاطئة. وتقر بوجوب تحرك الاتحاد الأوروبي ضمن جهود الدول الأعضاء فيه.
بالنسبة إلى كرامب كارينباور، لا يجب أن يتحول الاتحاد الأوروبي إلى دولة أوروبية كبرى لا يمكن للمؤسسات الأوروبية أن تدعي تفوقها على الجهود التعاونية للحكومات الوطنية.
عبرت كرامب كارينباور على ضرورة وقوف أوروبا على ركيزتين متساويتين: النهج الحكومي الدولي وطريقة المجتمع”. ولا ترى ضرورة في تشجيع بناء القدرات المؤسسية في مركز الاتحاد الأوروبي.
تعتبر المناقشة بين قادة فرنسا وألمانيا مهمة للغاية. ومع ذلك، تبقى الدولتان سجينتين لرؤى ثابتة لعملية التكامل. بالنسبة إلى ماكرون، تكمن الضرورة في بناء سيادة الدولة في بروكسل، بينما ترى كرامب كارينباور سبل تحقيقها في الحفاظ على سيادة العواصم الوطنية.
تراجع القوة الألمانية
تشهد البيئة الجيوسياسية في أوروبا عددا من التغيرات البارزة، مما خلق فرصا تمكّن فرنسا من أن تصبح أكثر نشاطا في تسيير الأمور. ووجدت ألمانيا نفسها تحت حكم تحالف هش يجمع بين الحزب المسيحي الديمقراطي (المنتمية إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل) والحزب الاشتراكي الديمقراطي. وأكدت ميركل أنها تنوي الانسحاب من الساحة السياسة بعد انتهاء ولايتها الحالية في سنة 2021 ما يترك فراغا سياسيا كبيرا في قلب أوروبا، يحاول ماكرون احتلاله.
بدأت سياسات ماكرون الاقتصادية (وهي عملية متوازنة تجمع بين الإصلاحات الهيكلية ومستويات الإنفاق العام العالية) تؤتي ثمارها. يعد الاقتصاد الفرنسي، رغم الاحتجاجات الداخلية، الآن من أسرع الاقتصادات نموا في أوروبا الغربية، وتوسع الناتج المحلي الإجمالي في البلاد بوتيرة أسرع من الاقتصاد الألماني في سنتي 2018 و2019. وبالإضافة إلى ذلك، تقلصت البطالة إلى 8 بالمئة، وهو أدنى معدل مسجل خلال العقد الحالي.
لا يعني ضعف ألمانيا بالضرورة أن فرنسا ستستطيع فرض وجهات نظرها على شؤون الاتحاد الأوروبي. فمن المرجح أن يؤدي ضعف برلين إلى شلّ التكتل بدلا من تسليم عجلة قيادة كتلة أكثر قوة إلى باريس.
وتواصل ألمانيا التمتع بلقب أكبر اقتصاد في أوروبا، وما زالت من أهم المساهمين في ميزانية الاتحاد الأوروبي، وتعدّ صوتا مؤثرا في شمال القارة وشرقها. ودون موافقة برلين، لا يمكن لباريس أن تحقق الكثير في ما يتعلق بالإصلاح الهيكلي في الكتلة الأوروبية.
أغلال فرنسا
على المستوى الأوروبي، دافع ماكرون على ما أطلق عليه اسم “الحكم الذاتي الاستراتيجي” أي نموذج الاتحاد الأوروبي الأكثر اكتفاء واستعدادا للتعامل مع التحديات التي تطرحها القوى العالمية مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا. ولكن أججت دعوات ماكرون المقاومة في الشمال، والشك العميق في الشرق، وهيّجت المؤسسات الحاكمة في الكتلة.
وتختلف التفسيرات السياسية في تحديد ما إذا كان ذلك يمثل انتصارا أو هزيمة لباريس.
وتبقى ألمانيا في حالة شبه شلل، مما يستبعد أي سيناريو تتحقق فيه إصلاحات عميقة في منطقة اليورو. في غضون ذلك، أثبتت شمال أوروبا قدرتها على تنظيم نفسها في معسكر مناهض لماكرون، في حين تبقى أوروبا الشرقية (على الرغم من الانقسامات الحالية داخلها) قادرة على عرقلة مقترحات باريس.
في الوقت نفسه، يواجه بعض حلفاء فرنسا في الجنوب (إيطاليا وإسبانيا) العديد من المشاكل الداخلية مما يحد من قدرتهم على المساهمة في تشكيل سياسة الاتحاد الأوروبي بشكل فعال. وفي الداخل، ستقيد تهديدات الاضطرابات الاجتماعية المستمرة ومشاعر مناهضي التكتل القوية مجال عمل الحكومة.
ومع ذلك، تبقى فرنسا الدولة الوحيدة التي تتمتع بالرغبة والاستعداد والطاقة اللازمة لإيقاظ الكتلة من خمولها، حتى وإن فرض عليها الوضع الراهن في نهاية المطاف أن توافق على مزيج من نصف الانتصارات والهزائم الجزئية.