دراسات التنمية تفتح نافذة جديدة على النساء في العالم الثالث

دراسات التنمية وصلت إلى طريق مسدود في تقييمها لاحتمالات المستقبل للعالم الثالث، وذلك بسبب فشلها في رؤية مركزية المرأة، وهو ما يدعو إلى فتح نافذة جديدة تنظر إلى النساء في العالم الثالث لإعطائهن المكانة الاجتماعية المناسبة لمشاركتهن في النهوض ببلدانهن.
ما زال حضور المرأة ضعيفا في خطاب التنمية، في العالم، وفي الدول النامية بشكل خاص. رغم كل الشعارات المرفوعة، والنماذج النسائية الناجحة، يبقى التهميش ثقافة سائدة في التعامل مع المرأة، ونادرا ما يؤخذ عملها وتعليمها وأدوارها في الاعتبار في إطار الدراسات الإنمائية.
ووصلت كل دراسات التنمية إلى طريق مسدود في تقييمها لاحتمالات المستقبل للعالم الثالث، وذلك بسبب فشلها في رؤية مركزية المرأة وأهمية الثقافة. وفي محاولة لاقتراح شكل نموذجٍ جديد للدراسات التنموية، التي تضع المرأة في مركزها، والثقافة على قدم المساواة مع الاقتصاد السياسي، قدّمت نخبة من الباحثين من أميركا وأفريقيا وآسيا وأوروبا، مشروعا أكاديميا تحت عنوان “مستقبل النسوية: قصص نساء من حول العالم”.
لكن عند نشر المشروع في شكل كتاب عرف مسارين، إذ في بداية نشره سنة 2003، باللغة الإنكليزية، كانت عيون محرّريه على المستقبل، غير أن طبعته الجديدة والتي ترجمتها نانسي محمد لدار العربي للنشر، حملت رؤى وأفكار ما شهدته السنوات المتعاقبة لـ2003. وكان للمرأة حضور أكثر في المشهد نتيجة تصاعد وتيرة الانتفاضات التي تتصدر النساء صفوفها الأمامية، والحركات الاحتجاجية التي تقودها النساء.
كانت المرأة حاضرة بقوة في حركات المقاومة الحازمة، التي تطالب بالتغيير الاجتماعي، سواء في الدول الجزرية الصغيرة لإنقاذ أراضيها من ارتفاع مستوى سطح البحر، أو حركة الاحتلال، أو حركة المقاطعة الفلسطينية، أو سحب الاستثمارات، أو فرض العقوبات، أو الانتفاضات المحلية في الأميركيتين وأوروبا والشرق الأوسط وقارة أفريقيا.
ويرى محرّرو النسخة الثانية من الكتاب أن حركات المقاومة العالمية والقاعدية التي تفهم المرأة تظل أفضل أمل للبشرية في مستقبل شامل ومتنوعٍ وعادل ومنصف وديمقراطي، قائم على الاعتراف بكرامة جميع الأرواح البشرية وغير البشرية، إذ لا يمكن تصور أي حركة دون أن تكون جامعة، من الشباب إلى كبار السن، ومن الجماعات الدينية إلى الناشطين العلمانيين، وأن تكون للنساء أدوار قيادية.
حركات المقاومة العالمية التي تفهم المرأة تظل أفضل أمل للبشرية في مستقبل شامل ومتنوع وعادل ومنصف وديمقراطي
أرجع المحرّرون الأسباب التي دعتهم إلى إصدار طبعة جديدة من الكتاب إلى أنه مع بدء عام 2016، ظهرت مجموعة من الأزمات المتداخلة وحركات مقاومة جديدة ومثيرة، كانت غالبا بقيادة نسوية. وقالوا إن “الأزمات التي نتعامل معها الآن -والعديد منها يتقاطع مع الأزمات الأخرى- تشمل حركة اللاجئين بأعداد كبيرة إلى أوروبا، والاضطرابات في أوكرانيا والشرق الوسط، والعنف ضد المرأة، والقضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية المعقدة المحيطة بتغيّر المناخ".
ولفت جون فوران، أستاذ علم الاجتماع والدراسات البيئية بجامعة كاليفورنيا، وأحد معدي الكتاب، قائلا “الآن يركز عملنا وحياتنا على أزمة المناخ، ونعطيه كل ما لدينا، لأنه يتطلب منا تغيير كل شيء.. يتعلق الأمر بربط تلك الأزمة بطرق فعالة، بكل قضية رئيسية أخرى نواجهها: عدم المساواة، والعنصرية، والأنظمة الذكورية والنزعة العسكرية والاستبداد والتقشف وما بعد الاستعمار والإمبريالية الجديدة، والرأسمالية”.
وأشار فوران إلى أن “مفتاح ذلك هو بناء ثقافاتنا حول العدالة المناخية بهذا المعنى الكبير، أو على الأقل بناء العدالة المناخية في ثقافاتنا المعارضة والإبداعية. وتبقى النساء في قلب هذا المشروع، مثلهن مثل الشباب ومجتمعات الخط الأمامي في الجزر، في الغابات، بالقرب من الصحاري، وفي الأحياء الفقيرة المنسية. وعلينا أن نبني نوعا جديدا من المجتمع، على فهم جديد تماما لتلك الكلمة الرهيبة ‘التنمية'”.
نتيجة لعولمة تقودها النخبة والشركات العابرة للحدود، واختطاف الثقافة (كتجربة حية)، ظهرت العديد من مشاريع التنمية في العولمة النيوليبرالية تسحب أشد الناس ضعفا في العالم إلى مستنقعٍ من التفاوتات المنهجية، التي أدت إلى الحرمان من الوصول إلى الغذاء والماء والأرض والطاقة، وإلغاء حق الناس في أن يعيشوا حياة مبدعة ومرضية، على الرغم من تجذر التنمية كسلسلة من المشاريع للحد من الفقر.
وهكذا يستهدف الكتاب تقييم وضع النساء في العديد من المواقع في العالم الثالث من أجل وضع نقطة جديدة تعتمد على جوانب من الأساليب السابقة والحديثة، وفي الوقت نفسه اقترح نافذة جديدة تنظر إلى النساء في العالم الثالث والطرق التي تقاومها النساء وتحتفي بظروف حياتهن.
وقالت بريا أ. كوريان، أستاذة العلوم السياسية والسياسة العامة في جامعة وايكاتو النيوزيلندية، ومشاركة في إعداد الكتاب، إنه “بدلا من أن نكون مراقبين محايدين ومحللين، يجب علينا (كأكاديميين) أن نتكلم ضد أجندة تنمية غير متوازنة مدفوعة بالرأسمالية المفرطة، وهي أجندة وضعت ليس فقط من قبل الشركات الثرية ولكن أيضا من قبل سلالة جديدة من المؤسسات الخيرية التي تقوّض المؤسسات الديمقراطية عن طريق توجيه الأموال في المشاريع المختارة التي تناسب أهواءهم وخيالهم”.
وأفادت أنه “على الصعيد العالمي، يمكننا أن نرى نظاما مؤسسيا للتأقلم – يتّسم بانعدام الأمن الوظيفي وغياب الرعاية الاجتماعية والمادية – يدفع المجموعات الضعيفة من الناس إلى حافة الهاوية. وبوصفنا علماء نهج المرأة والثقافة والتنمية (دبليو.دي.سي)، يجب أن نكون قادرين على رؤية واجهة التنمية اللّامعة والبحث بنشاط في استكشاف الطبقات المتداخلة لسياسات العرق والنوع الاجتماعي والطبقة التي تشكل معاني التنمية للأفراد والمجتمعات والدول. وبالتركيز على الثقافة جنبا إلى جنب مع الاقتصاد السياسي، يمكننا المشاركة في خلق المساحات للتفاعل بين السياقات الشخصية والهيكلية التي يمكن أن تؤدي إلى تغييرات اجتماعية تحويلية”.
بين الخدعة والتعصب
العولمة السياسية مجرد خدعة كانت تعمل على إنتاج أشكال ومستويات جديدة من الفقر والعنف بين الجنسين والهجرة والعنصرية، والتي تواصل تعميق عدم المساواة.
وفي هذه الفترة التي تتزايد فيها العولمة، فإن تداعيات الحرب التي قادتها أميركا عام 2003 على الشعب العراقي ظاهرة للجميع في عالم اليوم القائم على الأصولية الدينية، والإرهاب الذي لا يميز بين الفصائل، والحكومات المؤيدة، وانعدام الأمن الإنساني بشكل مروّعٍ في مناطق شاسعة.
وغالبا ما يقترن التعصب الديني بالعنف بين الجنسين، فعلى الرغم من وجودهما ضمن العديد من الدوائر الانتخابية التقدمية على ما يبدو، ترى معظم الديانات المنظمة صراحة أن المرأة كائن ذو مرتبة أدنى من الرجال، حتى إذا كانت هذه الأديان تعتمد على النساء لتعزيز قضيتها، كما هو الحال مع بعض مذاهب الحركات الأصولية.
وترى كوم كوم بهافناني، وهي أستاذة في علم الاجتماع والدراسات العالمية والنسائية في جامعة كاليفورنيا، وأحد معدي الكتاب، أن نهج المرأة والثقافة والتنمية يحاول تقويض الازدواجية.. أي ازدواجية الحكومات التي تدّعي الديمقراطية لكنها ترضخ لمصالح الشركات على حساب الصالح العام. وازدواجية الدول التي تبشّر بالعلاقات الدولية الأخلاقية والسلام العالمي، لكن مجموعات الأسلحة تسقط الأنظمة الشرعية. وازدواجية الرجال الذين يتحدثون عن السياسة الطبقية وموقعها المركزي في حياة كل فرد، ومع ذلك نادرا ما يطبقون ذلك من أجل أطفالهم.
وأضافت “منذ عقود عديدة، أشارت النسويات إلى ازدواجية أولئك الذين ادعوا الحب لإخوانهم من بني البشر، لكنهم لم يستطيعوا قول كلمة حب واحدة للأشخاص الذين رعوهم، واعتنوا بهم، وأعالوهم. كان هناك أشخاص يتحدثون عن الولاء لسياستهم ومعتقداتهم، ومع ذلك يمكنهم أن يتركوا القريبين منهم في تهوّرهم بحثا عن متعهم الفردية”.
وتابعت “كان يبدو أن ‘الحس السليم’ في كثير من الأحيان، هو الإصرار على أولوية الرغبات والاحتياجات الفردية. مثل هذا الإصرار يمكن أن ينفي الالتزام ويدمر العمل المشترك للرعاية والعناية التي تتم داخل الأسرة. ويمكن أن يُتجاهل الناس كبشر لديهم حاجة عميقة للولاء والحب الحقيقي. هذه هي الازدواجية التي يجب أن يكون نهج المرأة والثقافة والتنمية قادرا على تحديها”.
ويشير محرّرو الكتاب إلى أن دراسات التنمية في العالم الثالث تعد من مجالات البحث التي تقاوم دمجها بطريقة منفردة في مشاريع العولمة.
وعلى الرغم من أن دراسات التنمية تركزت على العالم الثالث، إلا أن تحليلاتها تميل إلى أن تكون مدفوعة باعتبارات السياسة الاقتصادية، التي تحدّد عموما النساء والثقافة كملحقات لمشروعٍ مركزي لزيادة الناتج المحلي الإجمالي للدول القومية في العالم الثالث.
تهميش ممنهج
وعادة ما تعتمد دراسات العالم الثالث على أفكار العلوم الاجتماعية والمدارس التاريخية، مثل: التبعية، ونظرية النظام العالمي وطرق تحليل الإنتاج، للاحتجاج بضرورة النظر إلى العمليات العالمية والدولية في الموقع، مع التركيز على بلدان الجنوب.
ومع ذلك، فنادرا ما يؤخذ عمل المرأة وثقافتها وتاريخها في الاعتبار في إطار العالم الثالث أو الدراسات الإنمائية، أو غالبا ما تعامل المرأة كضحية فقط في نظام من عدم المساواة القاسية وغير العادلة، في حال معالجة هذا الموضوع.
وعلى العموم، فإن هذه النماذج إما أن تحرِّم الفعالية النسائية، أو لا تذكر العلاقة بين مشاركة المرأة في العالم الثالث في المجالين الخاص والعام في آن واحد.
وقد تم تحديد المزيد من دراسات التنمية والعالم الثالث، من خلال تهميشها المنهجي لمخاوف الاستدامة البيئية التي لها آثار بعيدة المدى على النساء الفقيرات في المناطق الريفية في العالم الثالث. وفي الواقع، تم تهميش البيئة في خطاب التنمية من خلال التقنيات نفسها التي تم حشدها ضد النساء في التنظير الانحداري.
ويقول ديباشيش مونشي، أستاذ الاتصالات الإدارية في جامعة وايكاتور، إنه بصفته أكاديميا ذكرا إداريا يعيش ويعمل في دولة متطورة، غالبا ما يسأله طلابه عن كيفية تناسب فكرة نهج المرأة والثقافة والتنمية في المناقشات حول التواصل التنظيمي، أو تغيير الإدارة أو القيادة، وما الذي يتطلبه الأمر للوصول إلى هذا المستقبل المرغوب فيه.
وأضاف مونشي “أعتقد أننا يمكن أن نبدأ بإعادة تفسير الماضي من خلال عدسة نسوية. فبدلا من رؤية التاريخ من خلال سرد الحروب والفتوحات وأبطالها المزعومين، يمكننا النظر إلى العمل الرائع الذي قامت به النساء والرجال في مقاومة الظلم والمحافظة على المجتمعات”.
وتابع “ولا يسعني إلا أن أفكر في جدّتي، التي قامت، بطريقتها الخاصة، بمحاربة حمام الدم نتيجة العنف الطائفي المؤدي إلى تقسيم الهند من خلال العمل البسيط المتمثل في إيواء الناس من الأقليات في بيتها. والآن أرى بناتي ينظمن حفلات لرفع الوعي حول أبسط حقوق الإنسان، مثل الأطفال الذين يعانون من ويلات الحرب أو أولئك الذين يكافحون من أجل الحصول على مياه شرب نظيفة. هناك أمل، هناك مستقبل. ولكننا نحتاج إلى العمل ليس كأفراد فحسب، بل كمنظمات ومجتمعات، محلية وعالمية على حد سواء، لإحداث تغييرات هيكلية في الطرق التي تتم بها إدارة الكوكب وموارده”.