جنبلاط والخطة الأمنية: عقدة نصف الحقيقة
النائب وليد جنبلاط يدرك الحقيقة كاملة، ويعرف جيدا تفاصيل ما يجري ويدور في كواليس سياسة الطبقة المافيوية المسيطرة في لبنان لأنه ركن أساسي فيها. ولكنه دائما يصرّح بنصف الحقيقة ويراوغ بها.
لم تكن أحداث طرابلس جزءا من طبيعة أهلها، ولا موروثا تقليديا يتصف به “الطرابلسيون” الذين لا تهمهم السياسة كثيرا ولا تعنيهم بالأخص تلك السياسة المبتذلة التي تحاول أطراف القوى السلطوية أن “تضحك بها على الذقون”.
كما أن تلك الأحداث لم تكن منفصلة عن حاجات قوى المافيا السلطوية في لبنان، بل جاءت واستمرت بناء على هذه الحاجة.
من يطّلع على الخطة الأمنية التي أقرتها الحكومة اللبنانية مؤخرا، وبالأخص ما يتعلق بمدينة طرابلس، والتي تتضمن نزع السلاح ومصادرة مستودعاته في جميع المناطق ابتداء من جبل محسن إلى باب التبانة ومختلف الأحياء الأخرى، وعلى توقيف المطلوبين والذين صدرت بحقهم استنابات قضائية، وملاحقة المسلحين، يعتقد أنه وأخيرا تم الاتفاق على استئصال أسباب المعاناة التي أخذت من المدينة وأهلها من الوقت ومن الدم ومن انعدام الاستقرار أكثر بكثير ممّا تحتمل، إلى درجة بات سكان طرابلس أمام خيارين: إما نزولهم كبارا وصغارا ونساء وأطفالا إلى الشارع لمواجهة الرصاص بصدورهم العارية، أو النزوح.
ولكن التأخر في المبادرة إلى تنفيذ تلك الخطة، وتردد أنباء عن تواري أو سفر عدد من المطلوبين أو المتورطين في الأحداث، يطرح علامات استفهام وتعجب عديدة. وعندما نعرف أن القوى والعناصر المسلحة من كل الفرقاء المتورطين في الدم والخراب في طرابلس والذين حولوا المدينة بأهلها ومصالحهم إلى رهائن، يحظون بالحصانة التامة والدعم المادي والتسليحي والغطاء السياسي من تلك الجهات نفسها التي توافقت على تشكيل الحكومة وفرضت مندوبيها في تشكيلتها، والتي أقرت تلك الخطة الأمنية ذاتها، يبطل العجب.
فالمهل الزمنية التي فصلت بين الإقرار والشروع في التنفيذ، والتي شهدت سقوط العديد من الضحايا في صفوف المواطنين وعناصر الجيش وقوى الأمن، لم تكن تهدف إلا إلى الإفساح في المجال أمام الرؤوس الكبيرة من قادة العمل المسلّح من كلا الطرفين للتواري، وكذلك لنقل العتاد والسلاح من المستودعات المعروفة إلى أماكن ومخابئ جديدة في انتظار الوقت المناسب لعودة التوتير والاشتباكات، بحسب ما تمليه مصالح القوى السياسية- المافيوية المسيطرة ومقتضيات إنتاج وإعادة إنتاج توافقاتها وسيطرتها.
ففي تصريح له بعد خطوة حكومة تمام سلام إقرار خطة أمنية شاملة في لبنـان وخصوصا في طرابلس، تساءل جنبلاط عن مهلة الأيـام التي فصلت بـين الإقرار والتنفيـذ.وإذا ما كانت مقصودة لإفساح المجال أمام بعض المطلوبين أن يتدبروا أمورهم ويخرجوا من المدينة أو يتواروا. وهذا تساؤل في محله. فطالما أن الجيش والقوى الأمنية المكلفيْن بتنفيذ الخطة الجاهزة متواجدان على الأرض، فما الداعي إذن لتأخير التنفيذ؟
ما لم يقله وليد جنبلاط هو أن سياسة التوتير الأمني وعدم الاستقرار، وتخويف الطوائف والمذاهب بعضها من البعض الآخر وجعل القلق والاضطراب جزءا من حياة اللبنانيين أصبحت سياسة دائمة للطبقة المسيطرة بجميع قواها، لأن استمرار سيطرتها بات مرهونا باستمرار هذا الواقع.
فبمجرد شعور اللبنانيين بإمكانية النزول إلى الشارع نراهم يندفعون إليه لطرح قضاياهم المزمنة والتي يتم تجاهلها بحجة الوضع الأمني أو الفراغ الحكومي.
وإذ يرى جنبلاط “أن أطرافا ما في الخطة الأمنية، أنذرت جميع قادة المحاور سلفا بموعد قدومها، فبات بإمكان رفعت عيد أن يتابع دراسته العليا في جامعة بيركلي في حين من غير المستبعد أن يحتل قادة المحاور المقاعد الأمامية في أرقى جامعات أوروبا ويتوزعون بين باريس ولندن وبرلين إذا ما ثبت أن أرزاقهم قد قطعت جديا هذه المرة بفعل الخطة الأمنية”، فإنه يتعامى عن السيطرة التامة لمافيات السلطة على كل مرافق الدولة ومؤسساتها ومنها القضاء والأمن، وعلى الإعلام، تماما كما هي نفسها من يسيطر على العصابات المسلحة ويمولها ويغطيها ويوجه نشاطاتها. فلا خوف على بعض الرؤوس الكبيرة إن حدث أن ضابطا برأس “حامية” ألقى القبض عليها. فتلك ستكون مشكلة الضابط نفسه. أما المطلوب فلن يمضي في السجن أكثر من بضعة أيام ليخرج بعدها عزيز الجانب مرهوب المقام، بسند إقامة أو بكفالـة مالية هزيلة يدفعها الممول. وهذا ما عهدنـاه على مدى سنوات.
أما ما لن يقوله وليد جنبـلاط إطلاقـا فهـو أن حل بعض القضايا البسيطة جدا والتي تهم المواطنين اللبنانيين، كتأمين الكهرباء أو المياه أو حتى تلبية بعض المطالب المحقة والمستحقة، باعتراف الحكومة والنواب، للموظفين والأجراء بات قضية إسقاط نظام. فهل نستغرب أداء السلطة حيال خطة أمنية بحجم استئصال العنف وتثبيت الاستقرار وإعادة الحياة إلى طبيعتها؟
كاتب سوري