الاتفاق السوداني حماية شعبية وإقليمية للدولة المدنية

أبدى السودانيون تفاؤلهم غداة توقيع اتفاق تاريخي بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير، السبت، من شأنه أن يمهد لبدء مرحلة انتقالية تفضي إلى حكم مدني ويؤسس لمرحلة جديدة تقطع مع سياسات نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير الخاطئة، غير أن الطريق نحو الديمقراطية قد يحتاج وقتاً طويلاً في السودان، أمام تحديات عميقة تواجه المؤسسات الانتقالية ومن أبرزها التخلص من نفوذ الحركات الإسلامية التي سيطرت على جميع مؤسسات الدولة والقطاعات الرئيسية في الاقتصاد، كما يشكك البعض من معسكر الاحتجاج في قدرة الاتفاق على الحدّ من سلطات الجيش وضمان العدالة.
الخرطوم – تنتاب بعض الأوساط الخارجية حالة من القلق على مصير السودان بعد التوقيع النهائي على الإعلانين السياسي والدستوري السبت. وتعتقد دوائر مختلفة أن التحديات الكبيرة يمكن أن تهزم عملية إنزالهما عمليا على الأرض. غير أن الطريق الشعبي الذي مهد للوصول إليهما قد يكون كفيلا بطمأنة هؤلاء. كما أن الحشد الإقليمي والدولي الذي شهد على التوقيع بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير والترحيب به، ضامن أيضا لتطبيق الاتفاق، وعاصم ضد من يحاولون التنصل منه.
ويمثل التوقيع الرسمي بداية تحول ديمقراطي حقيقي في السودان منذ الاستقلال. ففي الفترات السابقة التي أعقبت الثورات والانتفاضات كانت هناك تحايلات أدت إلى الانتصار لطبقة عسكرية أو سياسية على حساب الإرادة الشعبية العامة. بينما هذه المرة يبدو المواطنون هم أصحاب النجاح الفعلي، وأجبروا جميع الأطراف على التسليم بالحكومة المدنية، وتغلبوا على الألاعيب التي حاول أصحابها الالتفاف على العملية السياسية.
وأعلنت قوى الحرية والتغيير، الأحد، عن خطها موثقاً لحماية الفترة الانتقالية والديمقراطية، يقضي بمناهضة الانقلابات وكافة أنواع الحكم الدكتاتوري والعسكري. واحتوى العهد الذي تلاه مولانا إسماعيل التاج، على 8 بنود، تمثل القيم العليا للثورة السودانية والتي تدور حول مفاهيم السلام والعدالة والمساواة.
مواجهة مناورات الإخوان
من حسن حظ السودان أن ثمة شهودا من دول مختلفة ومنظمات عريقة على الاتفاق. فهم بمثابة الرقيب على تنفيذه، الذي يمكنه بقسوة معاقبة كل جهة تلعب دورا سلبيا أو تساهم في حدوث خلل متعمد في التطبيق. ما يجعل أعضاء المجلس السيادي والحكومة والمجلس التشريعي، كأجسام سياسية مسؤولة في الدولة، حريصون على تجاوز الخلافات وتأكيد المصداقية. وهم جميعا سوف تكون الأضواء مسلطة على تصوراتهم وممارساتهم، ولن تخفت إلا مع وصول الاتفاق إلى منتهاه.
ينطوي هذا التحليل على قدر من التفاؤل المحسوب، لأن الاحتفال الكبير والشهود على الاتفاق، وقبلهم الشعب السوداني وفرحته العارمة، أكدوا أن هناك رغبة في أن يكون المستقبل مختلفا، وعزيمة على قطع الصلة مع نظام الرئيس المعزول عمر حسن البشير، وحرصا على عدم إتاحة الفرصة للقوى السياسية المنتمية إليه بالتقدم خطوة واحدة للأمام والمشاركة في السلطة. وتيقن الجميع من أن هذا النظام لم يعد من المفيد التعاون معه، حتى الأحزاب السودانية التي وقفت على يمينه أو يساره واستقطبها حينا لمشاركة ظاهرة في الحكم تنصلت منه عند أول منعطف حاد واجهه.
فشل الخطاب التحريضي الذي تبناه قادة في الحركة الإسلامية، تحت مسميات حزبية ودينية، في إيجاد كتلة شعبية مناهضة للاتفاق، وساهمت التوجهات العنيفة والتلميحات الساخنة في خلق كتلة مضادة أزالت جانبا كبيرا من التسامح السياسي الفائض في السودان، ووضعتهم تحت المجهر من قبل دوائر كثيرة في الداخل والخارج، تحسبا لارتكاب حماقات أو جرائم تخل بالتوازنات التي تأسس عليها الاتفاق الجديد الذي خرج منه فلول النظام السابق خاليي الوفاض، وأخفقوا في وضع قدم واحدة داخله تمكنهم من استئناف الحياة السياسية، ومحاولة الاستفادة من رصيدهم المادي والمعنوي في الكثير من المؤسسات الرسمية.
من حسن حظ السودان أن ثمة شهودا من دول مختلفة ومنظمات عريقة على الاتفاق. فهم بمثابة الرقيب على تنفيذه
انتبهت قوى سودانية عديدة لهذه الثغرة وطالبت بتجفيفها والتعجيل بإجراء محاكمات قانونية ومحاسبة عادلة لكل من خرّبوا الحياة السياسية والاقتصادية في البلاد، والعمل على حل الكتائب المسلحة التابعة للنظام السابق قبل أن تخرج من جحورها، بعد فشل الالتفاف على القوى الوطنية.
يزيل التخلص من العقدة النفسية لما يسمى بـ”كتائب الظل” التابعة للحركة الإسلامية الآن واحدا من التحديات العميقة. وهي عملية قد تستغرق وقتا، لكن لن تكون عصية على الهضم، فأي عمليات مسلحة تحدث خلال الفترة المقبلة سوف توجه أصابع الاتهام إليها مباشرة، لأنها الجهة الوحيدة التي تحمل سلاحا منظما وتدخر كميات كبيرة منه في مخازنها، إذا اعتبرنا أن غالبية الحركات المسلحة العاملة في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق أعلنت تمسكها بوقف الحرب والعدائيات وتأييد العملية السياسية.
يكبح الاهتمام الدولي بالسودان لجوء كوادر الحركة الإسلامية، بأجنحتها المختلفة، إلى رفع السلاح في التوقيت الراهن، ويجبرهم على التفكير بهدوء في استغلال النهج الديمقراطي وفرملة التوجه نحو إقصائهم من الحياة السياسية، أملا في القيام بمراجعة في محتويات الخطاب والثوابت التي اعتمدوا عليها سلفا وأدت إلى الفشل، ورغبة في فتح الطريق للمشاركة في الانتخابات عقب انتهاء المرحلة الانتقالية بعد ثلاث سنوات.
لم يعد قطاع كبير من الشعب السوداني مشغولا بفلول النظام السابق ومصيرهم في المشاركة السياسية، لأنهم مشغولون أكثر بالمستقبل الذي يؤسس لدولة حديثة بالمعنى الشامل للكلمة. وتريد الطبقة الحاكمة الاستفادة من المتابعة الدولية الحثيثة للعملية السياسية في رفع اسم السودان من على القائمة الأميركية للإرهاب، باعتبارها خطوة رئيسية تفتح المجال للحصول على المزيد من الدعم الاقتصادي وتمهد الأجواء لتدفق الاستثمارات المعطلة من دول مختلفة. وحصلت الخرطوم على وعود ضمنية من واشنطن لتجاوز هذه المشكلة.
تأييد الحكم المدني
يقدم ربط الكثير من القوى الكبرى تحسن العلاقات مع السودان بتأييد الحكم المدني، ميزة كبيرة للقوى السياسية الوطنية، ويمنحها الأكسجين اللازم لترسيخ هذا المبدأ الذي جرى الانقضاض عليه مرات عدة، بمعرفة المؤسسة العسكرية أو السلطة الدينية أو الاثنتين معا، ويدفع الشعب إلى مواصلة الضغوط لإبعاد الجيش عن السياسة في المستقبل.
ربما تكون هذه المسألة بحاجة إلى وقت وترتيبات معينة، بيد أنها ستظل واحدة من الأهداف التي سوف تتردد باستمرار، بحسبانها وسيلة تضمن عدم انحراف المؤسسة العسكرية عن دورها الأمني، والقبول بمشاركتها حاليا يرتبط بطبيعة المرحلة الانتقالية، وما تجابهه الدولة من أزمات أمنية دقيقة وعلى مستوى هياكلها الرئيسية.
إذا كانت أدوات علاج التدهور الاقتصادي واضحة بالنسبة للحكومة التي سيرأسها الخبير الدولي في شؤون التنمية عبدالله حمدوك، فإن الصورة التي سيكون عليها الأمن تنتابها هواجس متباينة. وبعيدا عن معضلة دور الجيش في السياسة هناك ما هو أهم، مثل تنقيته من القيادات والرموز ذات الميول العقائدية، والتعامل مع الفصائل المسلحة وتحديد موقف عناصرها.
ونكأت الحوارات التي جرت بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية في أديس أبابا وجوبا والخرطوم والقاهرة، الكثير من الجراح الخاصة بمصير الحركات المسلحة، لذلك لم يستعجل المجلس العسكري فتح مفاوضات مستفيضة مع قيادات الجبهة واكتفى بالإشارات الإيجابية، لانه متيقن من أن هذا الملف بحاجة إلى ترتيبات وإجراءات احترافية تبعده عن شبح الصدام.
فضلت جميع الأطراف السودانية الفاعلة تأجيل البت النهائي في هذه القضية، واكتفت بالعناوين العريضة مما حملته التفاهمات بين الحرية والتغيير والجبهة الثورية في أديس أبابا لوضعها في الوثيقة الدستورية الرسمية.
انبثقت عن هذا الاتجاه مشكلات كادت ترخي بتداعيات قاتمة على الاتفاق النهائي. الأمر الذي سيتم فتحه قريبا، فمن مهام الحكومة الجديدة العمل على توفير السلام خلال الأشهر الستة الأولى من بدء المرحلة الانتقالية. وتحاول الفصائل المسلحة التعامل مع الوضع بمرونة ولا تريد أن تكون الجهة التي تقع على عاتقها مسؤولية فشل العملية السياسية، وتحلت بكل أنواع الصبر، لعلمها أن أعين العالم مصوبة نحو السودان، ولن ترحم القوى الدولية والمنظمات الأممية من يضعون العراقيل أمام تنفيذ الاتفاق.
مهما كانت المرونة التي يتحلى بها قادة الجبهة الثورية وغيرهم لنجاح الاتفاق، فإن ثمة قضايا قد يفجرها ملف احتواء الحركات المسلحة داخل الجيش السوداني، ومكانة رموزهم التاريخية في السلطة، ناهيك عن توزيع الثروة والجدل الدائر بين سيطرة واحتكار المركز عليها وحرمان الهامش والأطراف منها.
ظلت هذه القضايا من الأسباب المركزية التي أدت إلى انفصال جنوب السودان، ومن الدوافع الرئيسية لعدم وقف الحرب الأهلية في بعض الأقاليم، فالنظام السابق لم يتح الفرصة للتفاهم الجاد، وربما كانت المخاوف التي غلبت على تفكير قيادات الحركات المسلحة غير مشجعة للتقارب والاتفاق، ويقينها أن الرئيس عمر البشير ليس جادا في التسوية.
اختلف المشهد والنوايا والتوجهات والحسابات، محليا وإقليميا ودوليا، بما يجعل الفرصة مواتية لحل أزمات الأطراف على قواعد وطنية. بالتالي لن يكون هذا التحدي بالدرجة التي يمكن أن تعطل الاتفاق السياسي الأخير. ولدى معظم الأطراف رغبة وإرادة لسيادة السلام الشامل في السودان، فإغلاق صفحات البشير لن يكون مكتملا وصفحة الحركات المسلحة مفتوحة وتمثل منغصا على الدوام.