يوسف الشاهد في التلفزيون، رئيس حكومة أم رئيس حزب؟

الغموض في المرسوم 116 لعام 2011، المنظم لحرية الاتصال السمعي البصري، هو أنه لا يفرق بين وظائف الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) وبين وظائف المؤسسات الإعلامية.
الاثنين 2019/08/05
حوار الشاهد.. حملة انتخابية قبل أوانها

“أنا جئت إلى هنا بصفتي رئيس حكومة لا بصفتي الحزبية” جملة كررها رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد في الحوار الذي أجراه معه التلفزيون التونسي مساء الأول من أغسطس وبثته وسائل إعلام أخرى. ولم تقنع تلك الحجة كثيرا من أهل الميدان ومن المراقبين عموما وعلى رأسهم نقابة الصحافيين التي اعتبرت الحوار انطلاقا لحملة الشاهد الانتخابية قبل أوانها.

وسيتفاقم الجدل وتونس على أبواب حملتين انتخابيتين. فإذا كانت النصوص واضحة وصارمة في توزيع الكلام على المتنافسين أثناء الحملة الانتخابية فإنه لا قانون يضبط استخدام الإعلام العمومي سياسيا خارجها، وهو السياق الذي جاء فيه الحوار مع يوسف الشاهد. ولن يجد معارضو الحوار منفذا قانونيا للاعتراض على ذلك بسبب غموض النصوص.

فالغموض في المرسوم 116 لعام 2011، المنظم لحرية الاتصال السمعي البصري، هو أنه لا يفرق بين وظائف الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) وبين وظائف المؤسسات الإعلامية. فالقول مثلا إن الهيئة تسهر على “برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة” وظيفة الهايكا وليست وظيفة الإذاعات أو التلفزيونات. وإذا كانت تلك هي وظيفة الهايكا وجب عليها، أو على غيرها، تحديد أهداف للمؤسسات الإعلامية لأن الدقة والتوازن هما آليتان لبلوغ أهداف.

في غياب النصوص الواضحة يمكن للهايكا أن تعاقب التلفزيون التونسي بالخطايا المالية أو بإيقاف البث أو بحجز معدات التلفزيون أو بسحب الإجازة التي لم تعطها إياه أصلا

فالدقة هنا، كالدقة في الإنتاج الإخباري عموما، ليست هدفا بل وسيلة لهدف مرحلي هو الوضوح قصد بلوغ هدف نهائي هو أن يفهم المتلقي. والأمر نفسه ينسحب على القول تسهر الهايكا على “إرساء مشهد إعلامي سمعي وبصري تعددي ومتنوع ومتوازن يكرس قيم الحرية والعدالة”. وحتى لو جعلنا ذلك هدفا فإنه سيكون من المستحيل أن نطلب من مؤسسة أو من جميعها أن تحقق ذلك المشهد ولو اجتهد بعضها بل كلها.

لقد كان ينبغي ترجمة تلك المبادئ أو الآليات إلى أهداف تُلزم المؤسسات الإعلامية كالقول في شأن التعددية مثلا “إن التلفزيون التونسي ملزم بإنتاج برامج حوارية تُعطى الكلمة فيها للفاعلين السياسيين على اختلاف مشاربهم حسب مقاييس عادلة تحددها الهايكا”. وفي تلك الحالة تصبح مساءلة التلفزيون بل مؤاخذته أمرا منطقيا وعمليا وعادلا.

ثمّ كيف نعلم من هو السياسي لاحتساب “وقت عادل” بينهم في التلفزيون؟ وإذا اتفقنا أن يوسف الشاهد سياسي فكيف نعلم إن كان تحدث مساء الأول من أغسطس بصفته رئيس حكومة أو بصفته رئيس حزب؟ أوَ ليس رئيس الحكومة سياسيا بطبعه؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل نحجب الكلمة عن رئيس الحكومة في فترة تسبق الانتخابات بتعلة العدل بين السياسيين في أخذ الكلمة؟

إن الأجوبة عن تلك الأسئلة ممكنة بالقول مثلا إن الشاهد المتحدث عما يشغل التونسيين جميعا هو رئيس حكومة وأن الشاهد المتحدث عن حزبه وعن مستقبله السياسي هو سياسي أولا وآخرا. وهناك أجوبة أخرى كثيرة تيسر للصحافيين عملهم وتحميهم من الوقوع في ما وقعوا فيه لما ألبسوا الرجل كسوتين، كسوة رئيس الحزب وكسوة رئيس الحكومة.

وتوضيح الفرق بين الوظائف والأهداف ممكن بشرط تعديل المرسوم 116 ثم تحديد الأهداف في القانون أو في كراس شروط يكون بمثابة العقد بين الدولة والمؤسسات السمعية البصرية. وتوضيح المرسوم 116 أمر عاجل لأنه يتحدث عن القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة والقنوات الإذاعية والتلفزيونية العمومية دون فصل وبتداخل مقلق.

بل أكثر من ذلك يعود المرسوم 116 في إحالاته القانونية إلى القانون عدد 33 الصادر في 4 يونيو 2007 المتعلق بالمؤسسات العمومية للقطاع السمعي والبصري الذي يجعل لتلك المؤسسات العمومية، أي الإذاعة والتلفزيون التونسيين في تلك الفترة، مهمة رئيسة هي “المساهمة في النهوض بالإعلام والتثقيف والتعريف بالسياسة العامة للدولة”.

ولا تتماشى روح ذلك القانون مع الأهداف المطلوبة من مرفق عمومي في سياق ديمقراطي. فهل يُعقل أن يُكلف تلفزيون أو إذاعة عمومية في محيط ديمقراطي “بالتعريف بسياسة الدولة”؟ فهل الدولة تحدد الاختيار التحريري للمرفق العام؟ وإذا صمت المرسوم 116 عن أهداف المرفق العمومي فإما أننا نقبل القانون عدد33، إذ لا نص آخر يضبط مهام التلفزيون، وإما نرفضه.

وإن نحن قبلناه فسيقول يوسف الشاهد إنه حضر في التلفزيون التونسي بصفته رئيس حكومة يعرّف بسياسة الدولة فهو في وضع قانوني مريح وإن نحن رفضناه فلا نصّ يمنعه حينئذ من الحضور بتلك الصفة أو بغيرها.

وفي غياب النصوص الواضحة يمكن للهايكا أن تعاقب التلفزيون التونسي بالخطايا المالية أو بإيقاف البث أو بحجز معدات التلفزيون أو بسحب الإجازة التي لم تعطها إياه أصلا. ولن تفعل لسبب بسيط هو غياب كراس شروط يضبط مهام الإذاعة والتلفزيون.

ودوى كراس الشروط هو أنه يدقق المبادئ القانونية ويفصّلها ويعطيها صبغتها العملية ويحمل من التفاصيل ما لا يسعه القانون الذي ساوى بين القطاع الخاص والعمومي، في حين أن كراس الشروط لا يمكنه إلا أن يكون لقطاع بعينه وهو الذي يحدد المسؤوليات. فمن يحدد المسؤول عن أخطاء الإذاعة أو التلفزيون اليوم؟ ومن يقول لنا إن التلفزيون أخطأ في الأول من أغسطس عندما حاور رئيس الحكومة؟

لا قانون يضبط استخدام الإعلام العمومي سياسيا خارجها، وهو السياق الذي جاء فيه الحوار مع يوسف الشاهد. ولن يجد معارضو الحوار منفذا قانونيا للاعتراض على ذلك

أخلاقيا هو أمر ممكن وفعلته نقابة الصحافيين التونسيين التي عبرت عن “استيائها الشديد” من الحوار غير أنه لا يمكنها الذهاب إلى أبعد من “المطالبة بضرورة حرص وسائل الإعلام على تجنّب الدعاية الانتخابية أثناء استضافة السياسيين”. وحتى يمكن الذهاب بالأخلاقيات إلى أبعد من ذلك فلا بد من تفعيل المؤسسة التي تعمل تحت سقف الأخلاقيات وهو مجلس الصحافة.

سيكون ممكنا يومئذ أن يقول مجلس الصحافة إن التلفزيون التونسي أخطأ، عملا بمبدأ المساءلة، ويتخذ من الإجراءات ما يراه مناسبا حتى لا يتكرر دوس الأخلاقيات الداعية إلى التعددية وتكافؤ الفرص بين يوسف الشاهد ومنافسيه مثلا. ولا تكون الإجراءات أحكاما قضائية، فالمجلس محكمة شرف، بل إجراءات من قبيل إجبار المؤسسة أو الصحافي على الإقرار بتجاوز الأخلاقيات والاعتذار للناس علنا وللمهنة.

وفي انتظار تركيز مجلس الصحافة للمساءلة ينبغي الإسراع بكراس شروط لتقنين المؤاخذة كما هو معمول به في بلدان أخرى. ففي فرنسا مثلا تكون المساءلة بالنظر إلى تقرير سنوي دقيق يضعه المجلس الأعلى للسمعي البصري بالمقارنة بين الأهداف التي يحددها القانون ويفصلها كراس الشروط وبين البرمجة الفعلية التي بثتها الإذاعات والتلفزيونات.

ولما تكون المساءلة دقيقة ومتاحة للجميع لن يجرؤ أحد على التلاعب بالتعددية وبتكافؤ الفرص مثلا. وفي انتظار ذلك وجب أن نعلم إن كان يوسف الشاهد، مساء الأول من أغسطس، رئيس حكومة أو رئيس حزب.

18