منع النقاب في تونس يفرز الخيط الأبيض من الأسود

انضمّت تونس رسميا، إلى قائمة الدول التي تحظر ارتداء النقاب في المؤسسات العمومية، قرار مثير للجدل، لكنه وُصف بالهام بعدما اتّخذته الحكومة التونسية وعلّلته بجوانب قانونية وأمنية، وليس على قاعدة مطلب مُجتمعي مدني، دفعت إلى تطبيقه الأحزاب العلمانية.
ولئن تشبّثت السلطات التونسية، بأن القرار من حيث توقيت صدوره لم يكن أبدا مبنيا على قاعدة التشفّي الأيديولوجي أو تسجيل نقاط سياسية قبيل الانتخابات أو تضييق الخناق على الحريات، فإن حظر النقاب مثّل فرصة هامة للقيام بعملية فرز سياسي حقيقي تُفضي بالنهاية إلى إدراك حقيقة من يصطف وراء الدولة المدنية الآمنة ويناصر خيط الحياة الأبيض ومن لا يزال حالما، غارقا في العدم، متشبثا بخيط العتمة الأسود والمتأبّط لشعارات “دولة الخلافة”.
إن فرز الخيط الأبيض عن الأسود في هذه الحالة التونسية، لا يُقصد به ما ورد في الآية القرآنية التي تخص الصوم، بقدر ما يراد التعبير من خلاله عمّا ورد في تعليقات أغلب التونسيين الذين ينعتون النقاب بأنه دخيل على ثقافتهم ويصفونه بالأسود العدمي المناهض للحياة، في مقابل التباهي بلباس مُشابه لكنه تقليدي أبيض اللون ومتجذر في هويتهم وهو “السفساري” الذي ظلّ ملازما لثقافة اللباس المُحتشم لدى المرأة التونسية منذ القدم.
الولوج إلى صفحات التواصل الاجتماعي الموالية لأتباع الإسلام السياسي ولبقية المشتقات المُرتهنة لأدبيات تراهن على أسلمة الدولة، يكشف أن هذه التشكيلات تصنّف قرار حظر النقاب، كأولوية عاجلة ولا بدّ من معارضة كل من يتبناه
كل هذه الاستعارات الدقيقة يُمكن تنزيلها راهنا على الوضع التونسي الحالي بعدما أراد الإسلاميون العودة إلى خطاب البُكائيات، متسلّحين بخطابات تُنزّل القرار على أنه انتهاك صارخ للحقوق والحريات الفردية وحرية الضمير المضمّنة بدستور الجمهورية الثانية المصادق عليه عام 2014.
لقد وقّع رئيس الحكومة يوسف الشاهد على المنشور الذي يُفيد بـ”منع كل شخص غير مكشوف الوجه من دخول مقرات الإدارات والمؤسسات والمنشآت العامة”، بعد أيام قليلة من التوتر الأمني الذي أفرزته تفجيرات انتحارية بالعاصمة تونس وتبنّاها تنظيم داعش.
ويحاول الإسلاميون إخفاء انزعاجهم من هذه الخطوة، لكن عند مجادلتهم في شأنها يهرولون إلى اللعب على المفردات الواردة بالمنشور المذكور، بحيث يتشبّثون بأن الأمر الحكومي الجديد لا يخُص المنقّبات فحسب بل يهم كل من يدخل إلى منشأة عمومية بوجه غير مكشوف وهو ما أكدت عليه فعلا النهضة في مواقفها على لسان النائبة لطيفة الحباشي حين قالت “هذا المنشور لم يذكر النقاب وإنما شمل كلّ شخص لا يكشف عن وجهه”.
عند الخوض في الدوافع الأمنية، يتبيّن أن العملية الأخيرة التي جدّت في منطقة حي الانطلاقة بضواحي العاصمة والتي فجّر على إثرها الإرهابي أيمن السميري نفسه كانت محرّكا قويا لتصميم السلطات على الحسم في قضية النقاب، كما تُحيي تفكّه التونسيين حول ما أعلنته دوائر علي العريّض وزير الداخلية الأسبق في عهد حكومات “الترويكا” يوم 17 سبتمبر 2012، حين برّرت هروب أبوعياض زعيم تنظيم أنصار الشريعة الإرهابي من مسجد الفتح في قلب العاصمة وحين كان محاصرا من قبل القوات الأمنية بأنه كان يرتدي نقابا واندس بين النساء متنكرا ليفر بعد ذلك إلى ليبيا.
علاوة على أن قرار حظر النقاب سيحدّ نسبيا من مخاطر الإرهاب، فإن الأهم عند طرح هذا الملف الآن في وقت تروّج فيه الأطراف الإسلامية الفاعلة في البلاد لخطاب جديد مفاده تحوّل النهضة من تكفير الديمقراطية إلى تبنيها من منطلق إشاعة مفهوم جديد؛ وهو “مسلمون ديمقراطيون”، وأنه سيكون متبوعا لا محالة بعملية فرز ستكون لها تداعيات مفصلية، وستورط الإسلاميين في مطبّ غير مستعدين للوقوع فيه ما قد يجعلهم في إحراج أمام قواعدهم.
وبعيدا عن المدخل القانوني والأمني، يتشبّث الإسلاميون، عقائديا وفكريا بمختلف تشكيلاتهم وتفصيلاتهم، سواء كانوا سلفيين أو سليلي جماعة الإخوان المسلمين أو من أتباع حزب التحرير، بحقيقة أن النقاب هو أمر شرعي لا يمكن للمسلمين الاختلاف فيه، استنادا إلى مقولات ابن تيمية القائمة على تفسيرات فقهية مفادها أنه “على المرأة أن تستر كامل بدنها حتى الوجه والكفّين من منطلق أن ظفر المرأة بدوره هو عورة، أو بالاستناد إلى تأويلات إسلاموية أخرى تقول إن “كشف النساء لوجوههن بحيث يراهم الأجانب هو فعل غير جائز شرعا”.
وقّع رئيس الحكومة يوسف الشاهد على المنشور الذي يُفيد بـ”منع كل شخص غير مكشوف الوجه من دخول مقرات الإدارات والمؤسسات والمنشآت العامة”، بعد أيام قليلة من التوتر الأمني الذي أفرزته تفجيرات انتحارية بالعاصمة تونس
في قلب هذا الجدل وعند مجادلة أي إسلامي يتظاهر بتبنّيه علنا ما تزعمه النهضة من تبنّ لخطابات جديدة حيث تقول إنها أصبحت أكثر تسامحا وأكثر انفتاحا على العالم، يكون ردّه مُستندا بصفة مبرمجة وتكاد تكون أوتوماتيكية على بعض ما قاله زعيم النهضة راشد الغنوشي في بدايات الثورة “إن من حق المرأة أن تختار لباسها، بشرط ألّا تخالف التراتيب القانونية المعمول بها في البلاد، النهضة لا تشجع على النقاب”. لكن بمجرّد طي صفحة المجادلة هذه دون الاقتناع بما تم تقديمه من مبررات، تحيل متابعة بعض منصات التواصل الاجتماعي إلى العكس تماما، حيث يمكن معرفة المواقف الحقيقية لقواعد الحركة من قضية حظر النقاب.
وبعد محاولة تصديق الخطاب الرسمي للنهضة، يجادلك أنصارها بأنه من غير المعقول على من يدّعون الدفاع عن الحريات الفردية أن يستحسنوا قرارا يضّيق على الحريات، وعند محاولة إقناعهم تجدهم يميلون في إجاباتهم إلى التمسّك بأنهم من أشد مُناصريها سابقا وراهنا، وعلى أن كل شخص هو حرّ في لباسه وفي حياته، لكن مجرّد أسئلة بسيطة تجعلهم يرتدّون على مواقفهم بسرعة قياسية، على شاكلة، هل أنتم مع قانون المساواة وبحق الأم العزباء في الحياة؟ حينها فقط تكون الإجابة قطعية “لا دخل لهذا بالحريات، هذه أشياء قطعية بالنصوص الشرعية والسنة”.
بالنظر إلى كل هذه التناقضات بين المعلن والمضمر، فإن الولوج إلى صفحات التواصل الاجتماعي الموالية لأتباع الإسلام السياسي ولبقية المشتقات المُرتهنة لأدبيات تراهن على أسلمة الدولة، يكشف أن هذه التشكيلات تصنّف قرار حظر النقاب، كأولوية عاجلة ولا بدّ من معارضة كل من يتبناه بالارتكاز مجدّدا على رفع الشعار الذي يشيع خبر “الإسلام في خطر”.