القديس يعيش

أفق يا كاسياس وانهض، أفق وانطلق، داعب الكرة ولاعبْ، راوغ المرض العارض، وعارض الأزمة الصحية وحارب، وليطمئن قلبك ويخفق.
اصبر على ما أصابك ولا تستسلم، فالأهوال التي مررت بها في السابق كانت أشد قسوة وبطشا، كانت أكثر إيلاما وحدّة، فهي أبكتك كثيرا وأرهقتك وفطرت فؤادك، لكن في كل مرة كنت تقاوم وتنجح، فتعود أقوى.
اليوم ستعود أقوى بقلب سليم معافى، ستملأ الدنيا بحماسك وبهجتك وقفزاتك التي جعلتك في السابق مثل فراشة طائرة أقلعت بأحلام الريال والمنتخب الإسباني إلى عنان السماء.
عبارات لا أدري كيف تراقصت وانطلقت بمجرد سماع خبر تعرض الحارس السابق لريال مدريد ومنتخب إسبانيا إيكر كاسياس إلى أزمة قلبية أثناء تأدية تدريباته مع فريقه بورتو البرتغالي منتصف الأسبوع الماضي.
من حسن حظه أنها مرت بسلام، لم تكن حادة، ربما جاءت لتعبث مع الشخص الخاطئ، فكاسياس لا يستسلم بسهولة، هو يحب التحديات وخوض المغامرات، لقد بدا وكأنه راوغ “الموت” وتمكن من الإفلات من قبضته، إذ لن تنال منه مجرد أزمة قلبية، الكل تعاطف مع كاسياس، الكل هلع وذعر وخشي على حياة القديس، لكن القديس سيعيش.
ما أصابه ليس سوى حلقة جديدة من حلقات الكبوات واللطمات التي مرّ بها طوال مسيرته الرياضية، فإيكر لم يجد دوما الطريق مفروشة بالورود، لقد كتب فصول سيرته ومسيرته الرائعة بأحرف من ذهب وكلمات من دموع.
صحيح أن باب الشهرة فتح أمامه في وقت مبكر للغاية، بما أنه خاض أول مباراة رسمية مع الفريق الأول للريال وهو في ربيعه السادس عشر ولعب مع المنتخب الإسباني قبل أن يبلغ سن العشرين، لكنه تعب وصبر كثيرا.
إيكر تلقى طوال مسيرته الكروية العديد من الصفعات، لم تقتله، لكنها صقلت شخصيته وطوّرت قدراته على التحمل.
عندما كان فتى يافعا أغرته أضواء الشهرة والنجاح المبكر خاصة بعد تصعيده إلى الفريق الأول للريال، لكنه فقد فجأة مكانه الأساسي وبقي فترة طويلة حبيس دكّة البدلاء.
لم يستسلم، بل عمل جاهدا على تحسين قدراته وصبر وانتظر حتى سنحت له الفرصة من جديد ليساهم وهو في سن مبكرة في تتويج فريقه بدوري الأبطال سنة 2000.
صفعة أخرى تلقاها هذا الحارس الشاب، لقد تخيل أنه سيكون الحارس الأول لفترة طويلة إلاّ أن مستواه تراجع بشكل لافت، فخسر مركزه الأساسي، عاد مجددا حبيسا لدكّة البدلاء.
كفكف دموعه وعاد للعمل، ثابر وكافح وانتظر فرصة أخرى، ليأتي الفرج والفرح سريعا، حيث نجح بعد موسم واحد من الإخفاق في العودة إلى مركز الحارس الأول، عاد وقاد الريال للقب جديد ضمن دوري الأبطال سنة 2002.
مرّ إيكر إلى السرعة القصوى ودشّن حقبة ذهبية خالدة سواء مع ريال مدريد أو المنتخب الإسباني، تذوّق حلاوة البطولات الكبرى وأبرزها على الإطلاق كأس العالم سنة 2010 وبطولة أمم أوروبا سنتي 2008 و2012.
غير أن اللطمات كانت ميزة مسيرة كاسياس، وكانت الدموع ملاذه الدائم، ففي زمن المدرب السابق لريال مدريد جوزيه مورينيو خسر هذا اللاعب مكانه الأساسي، لقد تفاجأ كل محبيه بإبعاده من قبل المدرب البرتغالي الذي أدرك أن مستوى هذا الحارس في تراجع.
أراد كاسياس مثل دأبه أن يقاوم، لكنه تلقى صدمة أقوى، كانت بمثابة الضربة القاضية، إذ أعلنت إدارة الريال أن الحارس التاريخي والأسطوري للفريق ولمنتخب إسبانيا وحامل الرقم القياسي في عدد المشاركات ضمن دوري الأبطال لم يعد له مكان في البيت الملكي.
انتهت مسيرة 16 عاما من العهد الملكي في مدريد بلا وداع يليق، انتهت فقط بالدموع، حصل ذلك سنة 2015، كانت لحظات فارقة في مسيرة هذا الحارس الفذّ، كانت مشاعر بمرارة العلقم، لقد انسكبت دموعه مدرارا، إذ كيف له أن يغادر بيته الذي نشأ فيه وترعرع؟ كيف له أن يترك أزقة القلعة البيضاء وحواريها؟
بيد أنه لم يستسلم، حاول النهوض بسرعة، حاول بدء عهد جديد والتعايش مع واقع مختلف وبعيد عن العاصمة مدريد، لم ينتظر كثيرا، إذ فتح أمامه بورتو الباب، رحّب به الجميع هناك في البرتغال، لتتواصل مسيرة لاعب شارف على سن الاعتزال، لكن مع كاسياس الاستسلام مُحال.
مرّ أيقونة ريال مدريد بفترات صعبة مع الفريق البرتغالي، فتقدمه في السن لم يساعده كثيرا في البداية على تقديم أفضل ما لديه، لم تكن دنياه الجديدة جميلة، حيث خسر في فترات طويلة مكانه الأساسي.
عمل بصمت وبجهد كبير، آثر مثل عادته ترصّد الفرصة، فأتت من جديد لينتزع هذا الموسم مركز الحارس الأول ويقدم أداء جيدا، رغم أنه شارف على تخطي سن السابعة والثلاثين.
منذ أيام قليلة كان يتأهب لمساعدة فريقه لمواصلة المنافسة على لقب الدوري المحلي، لكن تلك الأزمة القلبية اللعينة أبعدته قسرا.
ربما تلك اللطمة قد تجبره على الاعتزال نهائيا، لكن روح المقاومة الساكنة في قلب كاسياس ستجعله يعود من جديد، ستبث فيه دوما جذوة الحياة، ستجعل القديس يعيش.