حين تدور النواعير من جديد

تظل رحلة النواعير دلالة على انسياب الحياة في المدن القديمة وعنوانا يؤرخ فيه الناس صورهم ونبض حياتهم.
الخميس 2019/05/02
للنواعير حكايات وأماكن

بث لنا الدكتور طه جزاع نبأ إعادة تشغيل أول ناعور في مدينه هيت العراقية بأعالي الفرات، وهي قضاء عراقي تابع للأنبار، إحدى مدن الفرات الأعلى.

وهذا الناعور، أو الناعورة باللهجة المصرية، من أصل سلسلة نواعير أنشئت منذ فجر التاريخ على حوض وادي الرافدين وسوريا. فقد ترك ذلك الدولاب الخشبي بصمته على حياة الناس لكونه الوسيلة الرئيسية للسقي، وهو على شكل دائري يركب عموديا على مسار تيار الماء في النهر، ويثبت على محيط الدائرة عدد من الأوعية (الدلاء) أو “القلل” ليتجمع الماء فيها فترفعه إلى الأعلى ثم تفرغه في مجرى السواقي عند دورانها من قمة محيط الدائرة، حيث ينقل بهذا المجرى إلى ضفة النهر لتسقى اليابسة بمياه السيح التي يسحبها الناعور من كتف الشاطئ ويحملها إلى السواقي، التي يتدفق الماء فيها ليل نهار بعد أن ينساب في ساقية رئيسة على جنب النهر المنحدر في سريانه.

ومن هناك توزع على شبكة الري التي تخترق البساتين والمساحات المخصصة لهذا الغرض والمنبثة حول السواقي الطبيعية المحاطة بالخضرة، التي يبدأ عندها السهل الرسوبي في العراق.

وسحب الماء بواسطة الناعور يعد من أقدم الوسائل التي ابتكرتها أقوام مبدعة حول حوض النيل والفرات. وتعد حماة وعنة وراوة والفيوم المصرية من أقدم الحواضر التي وفرت سقيا بواسطة دولاب الناعور.

وللنواعير، بتلك العجلات المائية الخشبية المدولبة، حكايات وأماكن باتت معالم تكشف هوية نشاط سكان المدن والقصبات المشاطئة للأنهر، كهيت وراوة وعانة وحماة في أعالي الفرات وأخرى بذات الثقافة صنعها المصريون بمهارة وتسمى أيضا بالساقية، وهي عجلة خشبية دوارة تُثبّت على جانب النهر من قبل صناع مهرة، يثبتون الدولاب بين رحى حجرين عملاقين وبجهود مضنية وعمل يدوي حتى مرحلة تدويره وتصحيحات مستمرة ليستقر في مهمته الأبدية لملء خزاناته الجانبية (الدلاء) بالماء ذاتيا بسرعة جريان النهر وسكبه ببراعة على جانب النهر في سواقي خاصة هُيّئت مسبقا لهذا الغرض، حتى أضحت لصناع النواعير مكانة خاصة بين السكان، إذ يحظون بالإكبار والتقدير لمهمتهم في توفير المياه المجانية لعموم الناس وغالبا ما يعانون كثيرا لتثبيت الناعور وتشغيله.

لقد عانت النواعير الإهمال والتعدي على وجودها لسببين أحدهما الجفاف نتيجة بناء السدود على الأنهر التي خفّضت مناسيب المياه، والثاني بسبب حالة اللااستقرار الذي أصاب مناطق وجود النواعير نتيجة الحروب في العراق وسوريا وهجرة السكان نتيجة سيطرة داعش عليها.

لكن تظل رحلة النواعير دلالة على انسياب الحياة في المدن القديمة وعنوانا يؤرخ فيه الناس صورهم ونبض حياتهم.

24