ناطحات السحاب.. أيقونات معمارية تتجه شرقا

معماريون يرون أن الثقة في القدرة على تحقيق الأشياء والرغبة في تحقيقها في الشرق الأوسط والصين وسعتا المنهجية المعمارية أكثر.
الخميس 2019/05/02
برج خليفة أعلى منصة مشاهدة في العالم

تطور التاريخ العمراني من البناءات البسيطة إلى العمارات ثم إلى ناطحات السحاب والأبراج التي تشرئب لها الأعناق والتي ربما كانت حلما للمهتمين بالهندسة المعمارية، وهي اليوم لغز محيّر يطرح أكثر من سؤال يدور حول كيف وصل العلو إلى أكثر من ألف متر؟ وكيف يعيش فيها الناس؟ وهل هي مريحة كما المنازل الأرضية؟ الإجابات عند المهندسين المعماريين المهتمين بالبنايات الأفقية، وعلى رأسهم المهندس العالمي أدريان سميث الذي شيد أعلى المباني في طوكيو ونيويورك وشنغهاي والدوحة ودبي. هذا الرجل الملم بفلسفة والتاريخ العمراني والإنساني لهذا النوع من البناء جعل من بناياته الشاهقة تجمع بين فرادة البناء والتصميم وتراعي الموقع والطقس والجغرافيا والمؤثرات الثقافية والاجتماعية، بتصميمات ذكية توزع الطاقة والضوء على كافة أرجاء المبنى.

قالت مؤرّخة فنّ العمارة جوديت دوبريه إن كتابها “ناطحات السحاب: تاريخ المباني الاستثنائية في العالم” للأشخاص الذين يحبون النظر إلى أعلى وهم يسيرون في شوارع المدينة، هؤلاء الذين يتساءلون لماذا بنيت ناطحات السحاب؟ وكيف؟ وكشأن المغنيات فارعات الطول، تسيطر ناطحات السحاب على المسرح العمراني غير أن بعضنا يخاف تجليها المهيب.

ولفتت في جلسة مناقشة وتوقيع كتابها بـ معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ29، إلى أنه بعيدا عن ارتفاع ناطحات السحاب الشاهق، فإنها تقوم بأدوار كثيرة، فهي أيقونات المدن، ونجوم السينما، ورموز قوة الشركات، وأماكن يتوجه إليها الكثيرون كل صباح للعمل، وهي تعبر على نحو غير ممكن لأي نوع آخر من المباني عن آمال الأمة وأحلامها الضخمة.

وعلاوة على ذلك، فهي حلول للتمدين المتفجر الجاري في أنحاء كثيرة من العالم، وبشكل خاص في الصين والهند، حيث يتوافد الناس على المدن من أجل الفرص الاقتصادية.

باختصار، إن شكلها البصري الذي يتضمن معاني متعددة، قد أصبح مجازا متعددا لكل ما هو صالح وطالح في ما يتعلق بالحياة المعاصرة.

جوديت دوبريه: قليلون من يفهمون ناطحات السحاب، تصميمها وحجمها وسياقها وقدرتها الكامنة باعتبارها قوة للصالح العام
جوديت دوبريه: قليلون من يفهمون ناطحات السحاب، تصميمها وحجمها وسياقها وقدرتها الكامنة باعتبارها قوة للصالح العام

وكشفت دوبريه التي ترجم كتابها ضمن مشروع كلمة التابع لدائرة الثقافة والسياحة-أبوظبي عن أن كتابها لا يستهدف أن يكون دليلا شاملا، وإنما هو استعراض انتقائي لناطحات السحاب البارزة التي دفعت فن البناء شديد الارتفاع إلى أعلى وهو مرتب زمنيا لبيان التطور الأسلوبي لناطحات السحاب منذ البداية شديدة الصرامة، من الناحية الإنشائية في ثمانينات القرن التاسع عشر في شيكاغو الحدودية إلى إبداعات مانهاتن المسرفة التي ترمز إلى عصرها الذهبي بين الحربين العالميتين.

ويظهر ذلك من خلال الطراز الدولي وإعادة تدوير ما بعد الحداثة النشط، وتهجين الأساليب الحديثة وما بعد الحديثة والمحلية.

ويعرض الكتاب العديد من ناطحات السحاب التي تتحلى بالمسؤولية البيئية، من الناحيتين العلمية والخيالية التي تبشر بالأبراج الخضراء التي لم تأت بعد.

ومن أبرز المباني والمدن التي تناولتها دوبريه في كتابها واستعرضتها على شاشة عرض أمام جمهور المعرض، مركز التجارة العالمي، ومركز جون هانكوك، ومارينا سيتي، ومبنى وولورث، ونمو مدينة نيويورك، ومبنى ألوكا، ومدن خيالية، وبلدية طوكيو، وبنك الصين، وبرج لاند مارك، وأبراج بتروناس، وبرج العرب، وبرج يو أس بانك، ومركز بنك أو أميركا، والبنك الأهلي التجاري، وفندق وبرج ترامب الدوليان، ومركز التجارة الدولي، وأكوا، وبرج خليفة، وبرج شنغهاي، وبرج المملكة العربية السعودية.

عودة بلا حدود

أشارت دوبريه إلى أنه في أعقاب تدمير البرجين التوأمين في مركز التجارة العالمي توقف بناء ناطحات السحاب بشكل مؤقت، ثم انطلق عاليا ليدخل مرحلة بلا أية تحفظات من الاستكشافات المثيرة شديدة التميز التي يمكن أن نقول إنها غريبة بلا أي داع إلى الحدود القصوى للإمكانية الإنشائية والإبداعية.

وفي أثناء الركود الاقتصادي العالمي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعاد المعماريون والمهندسون والمطورون العقاريون والمقاولون التجمع، وظهروا من جديد وهذه المرة بمقاربة مدروسة أكثر، غير أنها كانت من نواح كثيرة أكثر إبداعا، لبناء الارتفاعات القائمة.

وقالت، “نحن الآن وسط انتعاش آخر لناطحات السحاب، وهو الانتعاش الذي انتقل شرقا، ففي الصين وحدها هناك عشرون برجا قيد الإنشاء يزيد ارتفاعها على 1250 قدما (380 مترا) وهو ما يساوي ارتفاع مبنى إمباير ستيت”.

وأكدت دوبريه أن المدن -وخاصة تلك التي يجري إنشاؤها من الصفر- “خزانة عجائب” تجنب مخططوها الجماليات الشكلية لمصلحة التصميم الانتقائي، وهذه الأبراج الجديدة مدن داخل مدن، حيث توفر أسباب الرفاه لمن يعيشون ويعملون فيها، وهي في البلدان النامية توفر القدرة على الوصول إلى القوة والمنافع الأخرى.

خزائن العجائب
خزائن العجائب

وأدت الحرية والسرعة وحجم التنمية في الصين إلى تجديد جذري، ودبي التي كانت في يوم من الأيام أسرع المدن نموا في العالم، نالت شرف أن تكون صاحبة أعلى مبنى في العالم لمدة خمس سنوات مقبلة أخرى على الأقل ببرج خليفة شاهق الارتفاع.

مع ذلك كما هو محتوم بدأ العمل في حفر أساسيات مبنى جديد أكثر ارتفاعا، برج المملكة في السعودية، وسيكون أول مبنى يتعدى ارتفاعه الألف متر.

الآن تفصل تسميات الارتفاع الجديدة فائقة الارتفاع وهائلة الارتفاع ما هو مطلق الارتفاع عما هو مرتفع فحسب.

ولفتت دوبريه، إلى أنه عند افتتاح متحف جوجنهايم في بلباو الذي صممه فرنك جيري عام 1997، نقل بناؤه غير المألوف المكسو بالتيتانيوم المدينة الإسبانية الهامدة فجأة إلى مقصد لا بد من زيارته.

وما زال هذا البناء المتعمد لأيقونة معمارية تنعش اقتصاد منطقة ما جاريا على قدم وساق، وقد سمي “مفعول بلباو” منذ ذلك الحين.

ومع اعتراف المطورين المنتمين إلى الاتجاه العام بالمنافع الكبيرة لدعوة كبار المهندسين المعماريين إلى تصميم المباني الأيقونية، ازداد تأثير المعماريين على ما يبدو عليه خط الأفق.

وهذه الحرية مقرونة بأحدث تقدم في أنظمة التصميم ثلاثية الأبعاد ورباعية الأبعاد ومواد البناء المركبة وأساليب الهندسة أدت إلى انفجار التعبير الإبداعي.

إن مخاطر هذه الصفقة المحتمل أن تكون فاوستية -مع المطورين- هي أن التصميم سيختزل إلى مجرد أداة تسويق يكون فيها المظهر أهم من الإبداع القائم على المعرفة.

ورأت دوبريه، أنه مع زيادة الوعي بالبيئة في أنحاء المعمورة، يختار المعماريون والمطورون العقاريون والمقاولون بناء مبان صديقة للبيئة، ويطالب المستأجرون كذلك بمسحات إدارية مستدامة، ويفهمون المسؤولية البيئية باعتبارها بعدا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لأفراد شركاتهم.

وتقدم ناطحات السحاب التي لا تزال مستهلكا نهما للطاقة بدائل مدمجة عالية الكثافة للتوسع العمراني، وتحد من بصمة الكربون بتقليل الحاجة إلى السيارات، ويجري حاليا تجديد ناطحات السحاب القديمة لتقليل الاستهلاك والاستخدام الكفء لها.

فلسفة وهندسة

جوهرة دبي
جوهرة دبي

أشارت دوبريه إلى أن قليلين هم من يفهمون ناطحات السحاب، تصميمها وحجمها وسياقها وقدرتها الكامنة، باعتبارها قوة للصالح العام، مثلما يفهمها أدريان سميث، معماري الارتفاع الفائق البارع، وقد صمم العديد من الأبراج البارزة، ومنها برج جين ماو في شنغهاي، وتاور بالاس ثري في سيول، وبرج وفندق ترامب إنترناشونال الواقعان في شيكاغو، وبرج بيرل ويفر في جوانج جو بالصين، وهو أول ناطحة سحاب في العالم يبلغ صافي استهلاكها للطاقة صفرا، وبرج خليفة في الإمارات أعلى بناء في العالم في الوقت الراهن.

وأوضحت دوبريه أنها في حوار مع سميث، سألته عن بدء حفر أساس برج المملكة في جدة بالسعودية، المرشح أن يكون أعلى برج في العالم؛ الأول الذي يتجاوز حاجز الألف متر.

وسألته أيضا عن الفرق بين تصميم يزيد ارتفاعه على الكيلومتر، وآخر أقصر منه ببضع مئات من الأمتار.

قال لها سميث، إن لكل منهما تحدياته التقنية، فكلما زاد ارتفاع المبنى كبرت المساحة، الأمر الذي يصبح القضية الأساسية من ناحية جدوى المبنى، وما مقدار الأقدام المربعة التي يمكن أن تطرحها في السوق دفعة واحدة؟ إذا كنت تريد تشييد مبنى فائق الارتفاع، لكن يمكنك شغل نصف المبنى فقط، يكون التحدي في خفض المساحة.

والقضية الأخرى تتعلق بالمصعد، وإلى أي ارتفاع يمكنه الصعود، قبل أن تضطر إلى الانتقال إلى مصعد آخر.

اليوم يمكن للمصاعد الارتقاء إلى ما يزيد كثيرا على الخمس مئة متر، وبذلك يمكن أن يكون لديك مبنى به انتقال واحد فقط.

وبالنسبة لمبنى يبلغ ارتفاعه 1600 متر، سوف تحتاجون إلى انتقالين، وربما ثلاثة، هذه القضية تتعلق بالناحية العلمية. هناك خمس شركات مصاعد قادرة على صنع مصاعد برج المملكة في جدة من ثلاث طبقات لبرج المملكة، لكننا ألغينا الفكرة لأن شركات قليلة يمكنها بناؤه.

وحول اختلاف تصميم برج المملكة عن تصميم برج خليفة، قال سميث، يختلف التصميم في شكله العام، فبرج خليفة يأتي على شكل مدرج، ولبرج المملكة ثلاث سيقان، وهي جدران يرتفع كل منها بزاوية مختلفة قليلا، وهو ما ينتج عنه الشكل اللامتماثل في القمة، حيث ينتهي أحد الجدران بعد حاجز الألف متر، ويرتفع الآخران حتى 600 متر و840 مترا.

ورأت دوبريه، أن المسح العام يثبت أن عبقرية ناطحة السحاب الجديدة المحفزة مضاعفة، فالسوق العالمية للمباني المميزة منحت المعماريين مسرحا واسعا ينفذون عليه خيالاتهم المعمارية.

وفي هذا الزواج بين المال والإلهام الفني، ليست هناك فكرة بالغة البعد، ويمكن تتبع إدمان الأيقونية حتى مبنى “إيه تي أند تي” لفليب جونسون (1984) في نيويورك، وهو أول ناطحة سحاب تتعمد الشروع في أن تكون من المشاهير، وجوجينهايم بلباو (1997) لفرانك جيري في إسبانيا التي أثبتت أن الأيقونة يمكن أن تكون مريحة.

وتحرر برامج النمذجة الحاسوبية كلا من المعماري والمهندس، وهو ما أسفر عن الأشكال التي لم نرها من قبل، تلك التي تتحول وتتلولب وتتلوى رأسيا، وكذلك أفقيا.

ويخلق معماريون مثل زها حديد كائنات حية حضرية لدمج بعضها بشكل جانبي في المدينة المحيطة، وهي تعلو خط الأفق.

رجل الهندسة الدقيقة
رجل الهندسة الدقيقة

في الوقت نفسه، خلق هذا التحرر من قلم الرسم الرصاص استواء بصريا، وهو نوعية عظيمة ثنائية الأبعاد تكشف جذور المبنى المولدة حاسوبيا، إذا يبدو أن المصممين الذين يستخدمون برامج النمذجة الحاسوبية يعون أن مبانيهم سوف تختبر.

وكشفت دوبريه أن تشييد المباني فائقة الارتفاع توقف لبعض الوقت، ثم استمر بلا انقطاع بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر على برجي نيويورك التوأمين.

ومع ذلك يبدو أن الهجمات الإرهابية أثارت الشهية العالمية كي تقيم مباني أكثر ارتفاعا من أي وقت مضى.

وتشير كارول ويليس -مديرة متحف ناطحات السحاب في مانهاتن- إلى أنه كان هناك تحول ما بعد الحادي عشر من سبتمبر في فهم ناطحة السحاب، من ارتباطها السابق بالمصالح الاستثمارية الخاصة إلى التماهي الجماعي مع نوع البناء والارتباط العاطفي بخط الأفق نفسه.

والجانب المضيء  في أحداث سبتمبر هو زيادة الوعي بالحاجة إلى السلامة، فاندماج ملامح سلامة الحياة -مثل القلوب الحمائية المتينة لمصاعد وسلالم الهروب، وفلاتر الهواء البيولوجية والكيميائية، ومناطق اللجوء في كل طابق، والتكرار الإنشائي- أثر على كل من التصميم والهندسة معا.

وأكدت ويليس أن الثقة في القدرة على تحقيق الأشياء والرغبة في تحقيقها في الشرق الأوسط والصين وسعتا المنهجية المعمارية أكثر، فبرج خليفة، الذي يتبنى مقاربة أكثر تقليدية لخرق سقف الضخامة، يجلس على قاعدة مثلثة توصل قوة الجاذبية وتحرف الرياح. وفي المقابل، فإن برج شنغهاي ذا الشكل المستدير بعض الشيء، وهو بشكل مؤقت أعلى بناء في الصين، يقلل إلى حد كبير حمل الرياح وتكاليف التشييد.

وعلى الرغم من موقف حرية العمل غير المقيدة التي يبدو أنها تفرض خط الأفق، فإن تصاميم ناطحات السحاب الجديدة ليست عشوائية، فهي تجسد ما يسميه ناقد العمارة بلير كامين “التعبيرية المرشدة” التي تضع أساسا لخفة يدها البصرية على الموقع والمواد والواقع الخاص بكيفية استخدام الناس لها.

وهذه المقاربة ليست جديدة، فهي واضحة في السيل الطويل من المباني مع الوعي الذي نبع من تطبيقات ريتشارد روجرز ونورمان فوستر.

والجديد الذي يلخصه إنتاج فوستر وشركاؤه “هو ما يثبت أن البيئي الأخلاقي يمكن أن يكون أنيقا كذلك”، ويجذر هذه التعبيرية الإنشائية في الوعي البيئي العالمي.

إلهام فني
إلهام فني

 

20