تفشي الفساد يؤرق التونسيين في غياب إرادة قوية لمحاربته

تونس – عاد ملف الحرب على الفساد ليتصدر واجهة الأحداث في المشهد السياسي في تونس مع بداية العدّ التنازلي للانتخابات الرئاسية والتشريعية ودخول الأحزاب ومرشحي الرئاسة غمار جولة التسويق الانتخابي قبل الموعد المحدّد في نهاية العام الجاري.
وأحدث حلقات هذا الملف، الجدل الذي صاحب إعلان رئيس الحكومة يوسف الشاهد عن بدء العمل ببطاقة العلاج الإلكترونية في خطوة قال إنها تأتي للحدّ من حالات الفساد في قطاع التأمين العمومي على المرض.
أثار هذا النوع من الخدمات الجديدة في قطاع الصحة العمومي ردود فعل قوية وتباينت آراء المعلقين حوله، بين من يرى أنه لا يتعدى حدود تلميع صورة الحكومة ورئيسها، وبين من يذهب إلى الإقرار بأن مشروع الرقمنة للخدمات العمومية الذي انتهجته الحكومة وشمل العديد من القطاعات هو أكبر تحدّ تخوضه الدولة لمحاربة الفساد.
ويقر محامون في القانون بأن الحرب على الفساد في تونس أخذت منحى لا إراديا بالنسبة للحكومة المطالبة باجتثاث هذه الظاهرة وكسر الطوق على المتحصنين والهاربين من العدالة ومحاسبة المتورطين في قضايا فساد. فيما يذهب ناشطون في المجتمع المدني إلى أن الحكومة تتعامل بسياسة الكيل بمكيالين وأنها تسخّر كل وسائلها لخدمة مصالحها وتصفية حسابات سياسوية في الحرب التي تزعم أنها تخوضها على الفساد.
وفتح قرار الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري (الهايكا) بغلق قناة “نسمة” الخاصة عيون التونسيين حول الآليات التي تتعامل بها حكومة الشاهد في محاربة هذه الظاهرة. وعبر الكثيرون عن مخاوفهم من استغلال الإعلام كمطية لتصفية خصومات سياسية. وربطت مصادر على مواقع التواصل الاجتماعي قرار الغلق بوجود صراع خفي بين مدير القناة ومؤسسها نبيل القروي، الذي تزعم بعض المصادر بأنه من المقرر أن يرشح نفسه لخوض الانتخابات الرئاسية، وبين رئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وتتحدّث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس عن نسب مئوية عالية في الفساد بأنواعه المختلفة، بل إن تونس تقدّمت مراتب على قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم. وأثر ذلك على كل مناحي الحياة السياسية والحزبية.
وكان أكرم السبلان، مدير المكتب الإقليمي في برنامج الأمم المتحدة، دعا إلى ضرورة وضع حوكمة خاصة بكل قطاع حتى تتمكن تونس من محاربة الفساد على أرض الواقع. وتحدث السبلان في تصريح لإذاعة محلية عن أهمية إيجاد آليات دائمة ومستدامة داخل الوزارات لمقاومة الفساد عبر وضع برامج تتناسب مع خصوصيات كل قطاع.
تنامي حالات الفساد
تنامى في تونس الفساد بأشكاله المتعددة وأوصل إلى وقوع حالات لا يمكن تصديقها. وعرّت قضية الموت المفاجئ للرضع بأحد المستشفيات الحكومية في تونس، آخر حصون دولة الفساد في تونس وكشفت الوجه الآخر للمافيا المتغلغلة في خاصرة الدولة وتَتحكّم في أجهزتها.
رغم ما أثارته القضية من جدل، إلا أن الكل في تونس يشكك في الرواية التي تمخضت عن التحقيق النهائي للحادثة وكيفية إخراجه للرأي العام بمواصفات استقالة الوزير عبدالرؤوف الشريف المدروسة وعملية التحضير لها مسبقا. وما زاد من حدّة هذه الشكوك كان الارتباك الذي حصل في تركيبة اللجنة المكلفة بالبحث في الملف وتداعياته على سير التحقيق ككل.
وأعلن محمد الدوعاجي، رئيس لجنة التحقيق في أسباب وفاة الرضع، أن نتائج التحقيق أثبتت عدم تناول أدوية أو مستحضرات طبية منتهية الصلاحية أو تحتوي على مواد سامة. وأضاف أن الـ14 طفلا الذين توفوا بمستشفى الرابطة كانت ولادتهم قبل موعدها. وبين أن سبب وفاة الرضع يعود إلى تعفن جرثومي وقع أثناء تحضير المستحضر الغذائي وفق ما أثبتته النتائج.
من اللوالب القلبية الفاسدة إلى البنج الفاسد إلى الحقن الفاسدة وغيرها، في كل يوم تصحو البلاد على وقع فاجعة جديدة، والسبب هو الفساد. ويعلق عمر بالهادي، الأستاذ في العلوم الاجتماعية والإنسانية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، على هذه الظاهرة بقوله إن “الفساد مرض إذا تفشى يصعب القضاء عليه بسهولة، حيث يصبح عقلية وسلوكا وقيمة ومبدأ في المواقف والسلوك والممارسة والقضاء عليه يتطلب أجيالا”.
ضرب القطاع العمومي
في ظل مشهد متأزم للخدمات العمومية في تونس بدءا من الكوارث الطبية المميتة مرورا بوضع قطاع التعليم المتدهور الذي وصل إلى التخوم وفتح المجال لخاصرة رخوة من التعليم الديني الموازي ولظواهر سلبية باتت تهدد جيلا كاملا، وصولا إلى قطاع النقل الذي يعيش هو الآخر حالة ركود ومأساة حقيقية يعبّر عنها الأسطول المتهاوي لشركات النقل العمومي بالعاصمة الكبرى وضواحيها، يضيّع حلم استفادة التونسيين من التغيير.
اختصار المشهد في القطاعات الثلاثة لا يمكن أن يوقف عدّاد استشراء ظاهرة الفساد وتغوّلها في تونس. لكنها في الأساس ثلاثة قطاعات حيوية وعماد الاقتصاد لأي بلد يحاول النهوض من كبوته على غرار تونس. هذه القطاعات يقع تدميرها بطريقة متقنة وبكيفية مقنّنة. تغوّل الفساد في هذه القطاعات لم يعد يسمح بهامش الإصلاح إن وجدت النية أصلا.
ويقول بالهادي في تصريح لـ”العرب” حول من يقف وراء ظاهرة الفساد في تونس “في كل أزمة ينتشر الفساد وتستغله شرائح كبيرة للإثراء السريع واحتلال مناصب فاعلة للتأثير في ما بعد. ففي الأزمات تصعب الرقابة، ويذهب الاهتمام إلى ميادين أخرى سواء كانت سياسية أو أمنية. أما طبيعة الذين يكونون وراءه فهم كل الذين لهم مصلحة في الفساد والإفساد، سواء كان ذلك في القطاع العمومي أو الخاص”.
ويضيف بالهادي حول الأسباب الكامنة وراء انتشار هذه الظاهرة “المصلحة تتمثل في الحصول على منافع كبيرة دون أي جهد وفي فترة وجيزة كما تتمثل كذلك في تخريب القطاع العام والمرفق العمومي لجر الناس للقطاع الخاص طوعا ودون أي تردد أو مقاومة وهنا نجد من لهم مصلحة في القطاع الخاص بتعاون مع الذين يحصلون على منافع فردية ويعملون بالقطاع العام وكذلك مع الطرف الثالث المواطن الذي يكون مستعدا لدفع ما يطلب منه للحصول على مبتغاه بكل الوسائل الشرعية وغير الشرعية”.
حرب مبتورة..
“أشد ما يؤرقني هو طريقة تعامل الحكومة مع محاربة الفساد.. إنها لا تحارب الفاسدين الكبار، لا تحارب رؤوس الأموال وأصحاب البطون الكبيرة، هذه المصيبة”، كان هذا جواب عدنان المصباحي، شاب تونسي متحصل على شهادة جامعية ولا يزال عاطلا عن العمل.
ويقول المصباحي لـ”العرب”، “الحكومة التونسية لا تبدي نية حقيقية في محاربة الفساد وهي ليست اسما على مسمى مثلما أطلقت على نفسها في بداية تشكيلها في 2016 ‘حكومة حرب على الفساد”. ويتساءل بقوله “أين الحرب؟ لم نر حربا، ما شاهدناه كان مجرد تجميل للتظاهر أمام التونسيين والعالم بأنها تحارب الفساد”.
ويتحدث نوفل المشاقي، الناشط في المجتمع المدني والعضو المنتمي إلى حزب التيار الديمقراطي، عن كيفية اشتغال منظومة الفساد في تونس، قائلا في تصريح لـ”العرب” إن “الفساد في تونس ليس جديدا.. هو امتداد لمنظومة فساد قديمة تشتغل تحت غطاء الحكومة والقانون”، ويقر المشاقي “المشكلة أن هذه المنظومة تفرعت بعد الثورة وأنتجت خلايا فَقدت الدولة التي كانت ترعاها سابقا السيطرة عليها، فأصبح الفاسدون ذئابا منفردة كالإرهابيين تماما”.
حالة الفساد في تونس، كما العديد من الدول العربية الأخرى، مستعصية تعايَشت مع أركان الدولة وفرضت نفسها طرفا لا حياد عنه ضمن منظومة اشتغالها مما عسّر آليات البحث عن الظاهرة واستئصال ورمها من الجذور. ذلك أنها قديمة ومتغلغلة في ثنايا الأجهزة بلا استثناء، وحتى وإن كان هناك استثناء فإنه يحسب على بعض الضمائر الحيّة دون سواها والتي تنظر بعين الريبة والتحسر أملا في اجتثاث دابر هذه اللوبيات والضرب بقوة في حصونها البعيدة للنهوض بالدولة والعودة بها إلى مسارها الصحيح.