التناقضات السياسية تقصم ظهر القضية الفلسطينية

يخطئ من يعتقد أن الخلاف بين حركتي فتح وحماس هو السبب الوحيد في تجذر الانقسامات على الساحة الفلسطينية، فهناك أزمات محتدمة وصلت حد التنافر بين ما يوصف بالتيار العلماني بجميع أطيافه وبين حركة حماس الإسلامية، بل بين غالبية القوى المندرجة تحت سقف الأول وبعضها، والجديد أن حماس دخلت مجبرة في عملية كسر عظم وعرة مع السلفيين في قطاع غزة.
حفلت الساحة الفلسطينية بخلافات كارثية خلال عقود سابقة، ولم تصل إلى مستوى التناقضات العميقة بين القوى الوطنية من ناحية، والاحتلال الإسرائيلي من ناحية أخرى، وحرصت جميع الفصائل على رسم صورة ضمنية تمنع استبدال الصراع مع إسرائيل بالتركيز على الصراع الفلسطيني، ونجح الزعيم ياسر عرفات (أبوعمار) في حل الكثير من شفرات العقد السياسية والمسلحة في هذا المجال، وقبض على كثير من خيوط اللعبة بما منع انفلاتها تماما.
انحصر جوهر التباعد في اختيار الآلية الناجعة المطلوبة لمقاومة ودحر إسرائيل، وشكل القوة القادرة على تصدر المشهد والإمساك بتلابيب القيادة العامة، ثم طفا الجدل على السطح حول المسار الأكثر جدوى للحل، وهل تمثل التسوية السياسية طريقا صائبا، أم تظل المقاومة السلاح الوحيد المرفوع في وجه الاحتلال؟
عند هذا الحد كان التناقض سخيا وإيجابيا، وجرى توظيفه سياسيا، وساهم رفع لواء الأداتين (التسوية والمقاومة) في تحقيق بعض المكاسب الفلسطينية، خاصة بعد أن تم ضبط الفواصل بينهما عبر مايسترو كبير يدرك طبيعة التوازنات الإقليمية والدولية، وتحمّل كل طرف جانبا معتبرا من المسؤولية الوطنية، بما حال بين إسرائيل وبين استغلال الهامش المتاح من الخلافات السياسية في حينه.
حصلت تجاذبات وتراشقات عدة، وصلت إلى حد الاقتتال الأهلي، وانتقل الخلاف بشدة من مربع التناقض مع الآخر الإسرائيلي، إلى التناقض مع الآخر الفلسطيني، وظهرت مشاهد سياسية وأمنية تؤكد صعوبة التقريب بين المسارات المختلفة، الأمر الذي حال دون نجاح جميع المحاولات التي جرت لتطويق تداعيات الانقسام.
بلغ التباعد ذروته عندما منح كل فصيل أولوية للطرف الفلسطيني المقابل، وبدا كأن إسرائيل لم تعد محل تناقض مع الجميع، حيث انتبهوا إلى أن حساباتهم الحركية متقدمة على الاستراتيجية، بما فيها العلاقة مع دولة الاحتلال، وسقط (تقريبا) مشروع التسوية السياسية من أجندة حركة فتح، وتوارت المقاومة في أجندة حركة حماس، واختفى المشروعان من على طاولة المباحثات الفلسطينية الحالية، ولم تعد القوى الوطنية لديها الوقت لمناقشة هذه الملفات المصيرية.
انشغلت غالبية الفصائل بارتباكاتها ومعادلاتها الخاصة، وكي لا تنغمس في التفاصيل الداخلية المرهقة، عمدت إلى تصديرها، حتى تحولت إلى كرة لهب تحرق من يقترب منها، وسط تغافل كبير عما تقوم به إسرائيل من إعادة رسم للخارطة الجغرافية لمستوطناتها والاستيلاء على أراض جديدة، بما يقضي على أي أمل في التسوية السياسية، ومدت تل أبيب الساحة الفلسطينية بروافد تجعلها منهمكة في تناقضاتها المحلية.
كشفت جولات الحوار في عواصم عربية متعددة بين القوى الفلسطينية، أن عملية المصالحة مثل العنقاء والخل الوفي، يصعب العثور على أي منهما في الوقت الراهن، وهناك من طالب بتجاوز هذه العقبة والبحث عن توافق أو تفاهم بشأن الحد الأدنى من القواسم السياسية المشتركة، لكن حتى هذه لم تعد ممكنة، عقب صعود كل طرف إلى أعلى الشجرة في مطالبه وطموحاته الحركية، وهو ما جعل عملية النزول شبه مستحيلة، في ظل توجهات متشددة تم تبنيها عن قصد لاختبار نوايا الآخر.
تدرك القوى الفلسطينية طبيعة المخاطر التي ينطوي عليها تمسك كل طرف بحد مرتفع من المطالب، ومع ذلك لم تحدث تنازلات أو يتم اقتراح حلول تعبّد الطريق نحو الوصول إلى تسوية مبدعة، توقف نزيف الخلافات، وتتكفل بوقف التدهور، وتساعد على جمع شمل الشتات السياسي الفلسطيني.
لست بحاجة لتكرار ما سبق كتابته هنا حول ارتياح معظم الأطراف للانقسام وجني ثمار مركبة من ورائه، لكن الحاجة ملحة للتنبيه على سلبيات استمرار هذه الحالة من التناقضات، والتي كسرت ظهر القضية الفلسطينية أكثر من الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل على مدار العقود السبعة الماضية، وهو ما يفضي إلى فرض حلول خارجية تتواءم مع الواقع المرير.
استثمرت إسرائيل الخلافات لتحقيق مكاسب متنوعة، ولا تزال حركتا فتح وحماس تتشبث كلاهما بثوابت واهية، أدخلت قضية بلديهما نفقا قاتما، وسوف يتزايد الظلام مع إثارة ملف الجولان، بعد التغريدة الشهيرة التي زعم فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حق إسرائيل في السيطرة على الهضبة السورية، بقصد تحقيق جملة من الأهداف السياسية، بينها حرف الأنظار بعيدا عن صفقة القرن الفلسطينية، أو تمريرها بأقل قدر من التشويش العربي.
حفلت المنطقة العربية بصراعات ونزاعات الفترة الماضية، وقلصت مساحة الانخراط فيها من درجة الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وجعلتها تكاد تختفي أمام الرياح والعواصف التي هبت على بعض الدول العربية، لكنها أخفقت في أن تمحو هذه القضية من ذاكرة الشعوب والحكام، وفي كل مرة يحتدم فيها النقاش حول تسويات إقليمية واعدة، كان هناك إجماع على عدم تجاهل أمّ وجوهر القضايا، باعتبارها المدخل الرئيسي للتهدئة، إذا أراد العالم طرق أبواب الحلول الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط.
أدى انتقال التناقض مع إسرائيل وتصويبه ناحية الداخل الفلسطيني إلى المزيد من تقويض القضية على الساحة العربية، ولم تعد الخلافات التاريخية البينية مجالا للمزايدة حول أي منها يحمل قدرا أكبر من الوفاء للثوابت والأدوات اللازم تدشينها لأجل الحصول على أعلى استفادة سياسية أو عسكرية.
انحرف التباين العربي مع إسرائيل ناحية تفضيل التعاون والتفاهم في بعض الملفات الإقليمية، وتشجعت بعض الدول العربية للدفاع عما تعتقد فيه أنه يمثل مصالحها كلما اتسع نطاق التناقض بين القوى الفلسطينية، وهو ما انعكس على عدم وضع قضيتها على أي من الطاولات الدولية المهتمة بها، وتراجع الجلوس حولها عندما تأكد الراعون والقائمون والمشرفون عليها عدم وجود صوت سياسي قوي يعبر عن اللُحمة الفلسطينية ويستطيع الحوار مع الجانب الإسرائيلي.
لجأت بعض القوى الدولية (روسيا مثلا) التي لا تزال تحافظ على نسبة من اهتمامها بالقضية، إلى محاولة تجسير الهوة السياسية، وتقويض التناقضات بين الحركات الوطنية، على حساب تقليصها بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل، ولم يؤد الانهماك في الأولى إلى نتائج ملموسة، ما يعزز قناعات البعض بترك المسألة إلى أن تختمر فكرة خفض مستوى الخلافات، أو تقضي واحدة من القوتين، فتح أو حماس، على الأخرى، أو تخرج من رحم الأزمة قوة ثالثة تتمكن من ضبط إيقاع التناقضات على موجة تسمح بعدم تجاهل أن الزمن يعمل لصالح تصفية القضية بأياد فلسطينية.