لم تعد شهرزاد تحكي قصتها

أمام النصب تسمع حكاية أخرى لمدينة طال هجرها وطلاقها من أبنائها الذين يئسوا من إعادتها إلى دعتها وتواصلها مع إرثها الطويل المكون من صفحات الفكر والتراث والثقافة لكبار الأدباء والمفكرين.
الخميس 2019/03/21
مدينة طال هجرها وطلاقها من أبنائها

من دون سابق تخطيط وقفت للمرة الأولى وأنا في بغداد وقت الظهيرة أمام نصب ألف ليلة وليلة، النصب الشهير في قلب شارع أبي نواس، لأتأمل تفاصيل النصب المؤلف من تمثالين من النحاس والبرونز للنحات الأول في العراق محمد غني حكمت، الذي ودّع بغداد حزيناً وهو يراها تدمى بحروب الطوائف التي عصفت بالبلاد والعباد، بُعيد عام 2003.

ترجلت لأستذكر تاريخ مدينة نسِيَها العمران واستوطنتها الحشائش التي تكاثرت حول النصب، الذي تسرب إليه بضعة عاشقين شباب وطلاب مدارس يدوّنون رحلتهم في وقت التخرج، أمام ذلك النصب الباذخ الذي تركه محمد غني قبالة دجلة وسط شارع الأحلام العراقية الآفلة.

لا أعرف سر الهجر والجفاء الذي دعا إدارات أمانة بغداد المتعاقبة، إلى إعلان الطلاق مع هذا الشارع اللصيق بدجلة لكل تلك العقود التي تمتد منذ اندلاع حرب الثمانينات من القرن الماضي، فقد أُهمل الشارع قسراً بعد أن تعرض لانفجار استهدف مبنى وكالة الأنباء العراقية بعمارتها الشاهقة بداية الثمانينات وفُرض طوق أمني على الشارع المطل على القصر الجمهوري.

وكأن الاستهداف آنذاك إعلان طلاق عرفي مع شارع الجمال والتبغدد ورائحة السمك المسكوف التي تشنف لها الأنوف حيث يمد الصيادون شباكهم المليئة بالسمك من النهر اللصيق ليُمتعوا رواد الشارع بالسمك الحي الذي يستخرجونه أمامهم حيًّا، ثم يضعونه أمام وهج النار المنبعث من رائحة الخشب الخاص، الذي يمنحه نكهة مميزة.

أمام النصب الذي يسمى أيضاً تمثال “شهريار وشهرزاد” لغني حكمت تسترجع مشهد الحكاية المؤلفة من ألف ليلة وليلة وكيف تقوم تلك الجارية الحاذقة شهرزاد بخداع سيدها “المضاجع” كل ليلة لفتاة ثم يقتلها حين يحل الصباح كي لا تقص حكايته، بحسب الرواية التي صارت حكاية شعبية مسرحها بغداد ورواتها من الفرس الذين أسبغوا عليها بعدا أسطورياً غريباً عن الثقافة العراقية، تبرز شهرزاد تلك الجارية المتوقدة ذكاء وجمالا لتخدع سيدها الماجن بحكايات من نسج خيالها لتغريه بسماع قصتها كل ليلة، لتحول دون قتلها حتى ينام وينسى أمرها ويؤجله لليوم التالي.

أمام النصب تسمع حكاية أخرى لمدينة طال هجرها وطلاقها من أبنائها الذين يئسوا من إعادتها إلى دعتها وتواصلها مع إرثها الطويل المكون من صفحات الفكر والتراث والثقافة لكبار الأدباء والمفكرين وطلاب العلم الذين يذرعون شوارعها جيئة وذهاباً وينسجون حكايات أخرى في أبي نواس الشارع المهمل الحزين الذي امتدت إليه يد الفساد والتجاوزات عليه، والشواغل الجديدة التي تكشف عن أسى عراقي لخراب الأمكنة.

24