الثقافة وميزانية الدولة

كنت قد كتبت هنا قبل عام تقريبًا عن اقتصاديات الثقافة في أوروبا وآلية تخصيص الأموال للفعاليات الثقافية في ميزانية الدول الأوروبية، واخترت كلا من هولندا وألمانيا وفرنسا، نماذج، ومن ضمن المقترحات التي قدّمتها، كان مطلب تخصيص ما نسبته 1 بالمئة من ميزانية الدولة للثقافة، أسوة بالبلدان المتحضرة، فتلقّف الكثير من الأصدقاء هذا المقترح وتبنوا المطالبة به، بما في ذلك اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، ولا أجد بأسًا في ذلك، بل إن المطالبة بتحقيق مثل هذا الهدف والإصرار عليه، هو جهد يصب في الاتّجاه الصحيح بالتأكيد.
ولكن هناك جملة من العوامل المهمّة ينبغي أخذها بنظر الاعتبار كي يكون الطرح موضوعيًا وواقعيًا، ليس أولها عدم أهلية ونزاهة الكثير من البرلمانيين الحاليين وأمّيتهم وانشغالهم بمصالحهم الخاصة والدفاع عن ولائهم إلى إيران، أكثر من اهتمامهم بالثقافة العراقية التي يجدون فيها ممارسة علمانية مشبوهة قد تطيح بهيمنتهم على مقدرات البلاد، ناهيك عن تحريمها أو تجريمها من قبل الكثيرين منهم، إضافة إلى الترهل المهول والتضخم الكبير بعدد موظفي وزارة الثقافة وعدم اختصاصهم وغيرها الكثير من الأسباب التي لا مجال لذكرها هنا.
والقضية الأهم التي لم يلتفت إليها أغلب المطالبين بنسبة الواحد بالمئة من الميزانية، هي ضرورة العمل على إصدار تشريع برلماني خاص يجبر واضعي الميزانية العمومية على تخصيص مثل هذا البند، وطالما أن البرلمان منشغل بقضايا ـ أهمّ ـ مثل الدفاع عن مصالح إيران وتبرير وجودها واللهاث من أجل إصدار قرار يطالب القوات الأميركية بالخروج العشوائي من العراق، ليخلو الجو للنفوذ الإيراني والميليشيات المرتبطة به، فإن مثل هذا البرلمان آخر ما تؤرقه قضية الثقافة العراقية، إذ تجاهل أو فشل، على سبيل المثال في تشريع قانون حماية الملكية الفكرية منذ أكثر من عشر سنوات، على الرغم من أهميته وارتباطه في دخول العراق منطقة الحماية والاعتراف الدولي بالمنتج الثقافي والإبداعي العراقي في عموم العالم.
وإذا ما غضضنا الطرف عن تلك المشكلات الكبيرة والبنيوية التي تحول دون تحقيق مثل هذا المطلب، فإن ثمة مشكلة إجرائية أهم ينبغي على المطالبين بتخصيص الـ1 بالمئة من ميزانية الدولة للثقافة الالتفات إليها، تتعلق بآلية الصرف والتحكم بمثل هكذا مبالغ كبيرة، وطبيعة الجهات المسؤولة أو المخولة بتوجيه تلك الأموال في اتّجاهاتها الصحيحة، وما تتطلبه من خبرة ودراية ونزاهة وتقاليد ثقافية متجذرة وحيادية تامّة وإخلاص لقضية الإبداع.
لقد أثبتت الممارسات السابقة بما لا يدع مجالا للشكّ، عدم توفر مثل تلك الاشتراطات في ظرفنا الراهن، ولعل أبرز مثال ما حصل من صفقات فساد كبرى جرت ضمن ما سمّي في وقتها بفعالية “بغداد عاصمة الثقافة العربية” التي أهدرت فيها أكثر من 500 مليون دولار وزعت على الأعوان والبطانات والمريدين، على شكل منح وعطايا لإنتاج أفلام وهمية ونشر أعمال هزيلة.
إن تخصيص ما يعادل 1 بالمئة من الميزانية العمومية البالغة حوالي مئة مليار دولار، يعني ما يعادل واحد مليار دولار تُخصص للثقافة، في بلد يعاني من تغول الفساد وانتشار المحسوبية وانتشار الأميَّة وعدم إخلاص الغالبية من السياسيين للعراق وقضاياه المصيرية وثقافته، ومثل هذا المبلغ سيسيل له لعاب مافيات الفساد والسياسيين، وسيكون مدعاة لحياكة المؤامرات على الثقافة والمنظمات الضعيفة التي تمثلها. ولا أشك لحظة واحدة في استحالة تحقيقها في العراق في ظل الأوضاع المأساوية الراهنة.