حمى الانتخابات تسير بتونس نحو تحالفات سياسية بموازين قوى جديدة

لا يفصل تونس عن الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية سوى بضعة أشهر وهو ما جعل كل الأحزاب توجّه بوصلتها نحو هذه المحطة السياسية الهامة التي ستكون مفصلية في تاريخ البلاد، ومع اقتراب هذا الموعد الهام يعيش المشهد السياسي التونسي مؤخرا على وقع متغيّرات هامة قد تبدّل بصفة تامة التحالفات السياسية القائمة، لكن بموازين قوى جديدة خاصة إن أعلن رئيس الحكومة يوسف الشاهد صراحة تزعّمه المشروع السياسي الجديد “تحيا تونس” المحسوب عليه وعلى حكومته.
تونس - دخل المشهد التونسي في حراك سياسي وحزبي غير مسبوق، اتسعت فيه مساحة المُستجدات التي فرضت حسابات ومعادلات جديدة، تعددت فيها الرهانات، وسط تباين حاد في الاتجاهات التي تنوعت باختلاف عوامل إدراك طبيعة المرحلة الخطيرة التي دخلتها البلاد، وحجم المتغيرات التي أحدثتها، وما يلحق بها من تداعيات مُتسارعة على مُجمل البناء السياسي الراهن.
وأخذ هذا الحراك نسقا تصاعديا، منذ الإعلان عن موعد تنظيم الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، حيث تتالت المؤشرات على تحول لافت في مسار العملية السياسية في البلاد، يُلامس في تفاصيله نزعة نحو إعادة صياغة مُكونات المشهد الحزبي والسياسي على قاعدة تحالفات بموازين قوى جديدة.
وأعلن نبيل بافون، الرئيس الجديد المُنتخب للهيئة العليا المُستقلة للانتخابات في تونس، في وقت سابق، أن الانتخابات التشريعية القادمة ستجري في شهر أكتوبر القادم، بينما ستنظم الانتخابات الرئاسية في شهر نوفمبر.
هذه المواعيد إن تم احترامها، تعني أنه لم يعد يفصل البلاد سوى 8 أشهر على تلك الاستحقاقات الانتخابية التي تُجمع القراءات المرافقة لها في علاقة بالظروف الموضوعية المُحيطة بها، على أنها ستُغير المشهد السياسي في علاقة بموازين القوى، والتحالفات على الصعيدين السياسي والحزبي.
إذا قرر رئيس الحكومة يوسف الشاهد الانخراط رسميا في الحزب الجديد "تحيا تونس"، فإنه سيستقيل آليا من منصبه، ما يعني رحيل الحكومة، والذهاب نحو حكومة انتخابات
وتدفع المُقاربات السياسية المُرتبطة بهذه الاستحقاقات، وخاصة منها سعي حركة النهضة الإسلامية إلى تغيير العتبة الانتخابية نحو الترفيع في نسبتها الذي بدأ يطفو على السطح بلغة لا تأخذ في سياقها التوازن العام في البلاد، بسلسلة من الهواجس التي تنتاب مُختلف الأطراف الحزبية.
عرف مجلس نواب الشعب (البرلمان) نقاشات صاخبة أثناء مناقشة مشروع قانون تقدمت به الحكومة ينص على تنقيح القانون الانتخابي، والتأسيس “لعتبة انتخابية” بـ5 بالمئة يتم بمقتضاها إقصاء أي قائمة انتخابية تحصل على أقل من 5 بالمئة من مجموع الأصوات في الدائرة الانتخابية، من الحصول على تمثيلية برلمانية.
تغيير العتبة الانتخابية
فجر مشروع هذا القانون الذي تدعمه بقوة حركة النهضة الإسلامية خلافات حادة بين الأحزاب، تخللتها اتهامات مباشرة للأحزاب الكبيرة بمحاولة فرض سيطرتها على المؤسسة التشريعية القادمة، وإقصاء الأحزاب الصغرى والقائمات المستقلة من عضوية البرلمان القادم.
ويساهم المشروع المذكور في اتساع مساحة تلك الهواجس أكثر فأكثر، لاسيما في هذا الوقت الذي يتسم باختلال موازين القوى نتيجة انهيار حركة نداء تونس، وتراجع دورها في مُجمل المعادلة السياسية والحزبية، إلى جانب استمرار تشتت وانقسام بقية القوى التقدمية والحداثية التي فشلت في توحيد عوامل الترابط العضوي بينها.
وفتح هذا الوضع، الباب أمام سلسلة من التكهنات بدأت تفرض نفسها وسط سيناريوهات مُتعددة، في علاقة بهذه الانتخابات التي تُوصف بالحاسمة لمُجمل المسار الانتقالي في البلاد، بالنظر إلى تأثيراتها المباشرة على مآلات الرهانات القادمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وكذلك أيضا أمنيا وعسكريا.
وترتبط تلك السيناريوهات بتعدد الاحتمالات في علاقة بالجانب الحكومي، وكذلك أيضا الحزبي، باعتبار طبيعة المرحلة التي لا تخلو من تصعيد متعدد الأبعاد، وسط مُناورات سياسية أملتها مُقاربات تسمح بإعادة إنتاج “التوافق المغشوش” الذي كان بين الرئيس الباجي قائد السبسي وحركة النهضة الإسلامية بعناوين مُختلفة، وأدوات أفرزتها التجاذبات الحزبية.
وعلى وقع هذه التطورات التي تشي بمُتغيرات مُتعددة الجوانب، تبدو الحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد التي نالت ثقة البرلمان في 12 نوفمبر الماضي، معنية مباشرة بهذه الاستحقاقات انطلاقا من المشروع السياسي للشاهد الذي بدأت ملامحه تتضح منذ الإعلان في 27 يناير الماضي عن حزب “تحيا تونس”. وعلى هذا الأساس، يبدو أن مصير هذه الحكومة مُرتبط شديد الارتباط بالموقف النهائي ليوسف الشاهد، في علاقة بمشروعه السياسي، بمعنى أنه إذا قرر الانخراط رسميا في هذا الحزب الجديد، فإنه سيستقيل من منصبه، ما يعني رحيل الحكومة، والذهاب نحو حكومة انتخابات.
وساهمت تصريحات راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة الإسلامية التي لم يستبعد فيها الذهاب إلى حكومة انتخابات، في الدفع بهذه الفرضية إلى دائرة الضوء، لتتحول بذلك إلى عنوان رئيسي للمداولات داخل الصالونات السياسية في البلاد.
ورغم مُسارعة المكتب التنفيذي لحركة النهضة الإسلامية إلى التقليل من وطأة تصريحات الغنوشي، فإن هذه الفرضية ما زالت تفرض إيقاعها على الفاعلين السياسيين، الذين يعتبرون أنها بعيدة في الوقت الراهن، لكنها ليست مُستبعدة، وهي لصيقة بنتائج المؤتمر الذي يعتزم حزب “تحيا تونس” عقده في السابع من مارس المُقبل، وكذلك أيضا بالموقف النهائي لحركة النهضة.
لكن ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أن الشاهد الذي يتطلع إلى أن يكون حزب “تحيا تونس” أداة تمكنه من تحقيق أهدافه، دخل في مأزق حقيقي أثار الكثير من التكهنات بسبب التجاذبات داخل هذا الحزب الجديد الذي تقدم الأسبوع الماضي رسميا بطلب الحصول على تأشيرة العمل القانوني. وتؤكد المعطيات أن وضع يوسف الشاهد الذي لا يُخفي تطلعه إلى لعب دور بارز في المشهد السياسي القادم، ليس مريحا رغم أن أعضاء فريقه الحكومي اختارهم على مقاسه ومقاس مشروعه السياسي، وذلك بالنظر إلى المتاعب الناتجة عن التجاذبات الحادة التي بدأت تبرز تباعا.
هذا المأزق الذي وجد الشاهد نفسه فيه، هو ما يُفسر حالة الارتباك والتخبط التي يعيشها هذا الحزب الذي يستعد لعقد مؤتمره التأسيسي في مارس المُقبل، ما يعني أن المشهد السياسي في البلاد مُقبل خلال الأسابيع القليلة القادمة على جملة من المُتغيرات السياسية والحزبية في علاقة بالانتخابات القادمة.
سياق حزبي مُشتت
بالتوازي مع كل هذا، يتسم المشهد السياسي بسياق حزبي مُشتت تكثر فيه السيناريوهات المرافقة للاستعدادات لتلك الاستحقاقات الانتخابية، وسط حديث مُتزايد عن مُفاجآت عديدة قد تقلب موازين القوى.
وتكاد مُختلف القراءات تُجمع على أن الوضع الحالي الذي يتسم بالانقسام والتشرذم، استفادت منه حركة النهضة الإسلامية، التي ستستفيد أيضا من العزوف المُتوقع عن المُشاركة في الانتخابات القادمة، الأمر الذي سيُمكنها من تحسين موقعها على مستوى الانتخابات التشريعية، بما يُمكنها من حصد أكبر عدد من المقاعد.
ورغم خلافاتها الداخلية التي بدأت تتسرب إلى العلن، فإنها مُرشحة لأن تكون الأولى في الانتخابات التشريعية، باعتبار أن لها كتلة انتخابية ثابتة قادرة على الاعتماد عليها في مثل هذه الاستحقاقات، وذلك خلافا لبقية الأحزاب.
وعلى هذا الأساس، لا يستبعد أن تفوز هذه الحركة بأغلبية مُريحة في البرلمان القادم، وذلك في صورة عدم حدوث مفاجآت خلال الأشهر القليلة القادمة في علاقة بملف الجهاز السري، والاغتيالات السياسية.
في المُقابل، يسود اعتقاد بأن حزب “تحيا تونس” الذي استطاع في وقت وجيز استقطاب عدد هام من أعضاء وأنصار عدد من الأحزاب الأخرى -منها حركة نداء تونس، وآفاق، والمسار الديمقراطي- سيكون حاضرا في هذه الانتخابات، ليس بسبب برنامجه، وإنما بسبب اعتماده على مقدرات الدولة.
وفيما تبقى هذه التقديرات رهينة بالتطورات التي تتصل بمصير الشاهد -بمعنى إن بقي في الحكومة، فإن تلك النتائج قابلة للتحقيق، وإن غادرها يصعب تحقيقها- فإن حالة التشتت والانقسام التي تُحيط ببقية الأحزاب، وخاصة منها حركة نداء تونس، تؤشر على أن المشهد العام في البلاد مُقدم على اصطفافات ستُفرز موازين قوى جديدة.