الفيلسوف الغربي الذي أسلم رأسه للطاغية الشرقي

حينما يأتي يوم تعاد فيه كتابة "تاريخ الجنون" بموضوعية، سيكون فيه لفترة "الجمهورية الإسلامية" نصيب وافر من الصفحات وسنقف على تفاصيل سقوط ميشال فوكو في فخ "التقية" الشيعي.
الأحد 2019/02/24
ميشيل فوكو إبان الثورة الطلابية في باريس 1968

في جدال عنيف حول ما كان يجري مع بداية الحركة الأصولية في إيران، انفجر أحد الطلبة المتأسلمين في وجهنا وكنا نرى في الخميني الدرويش مجسدا والشر قادما “هل أنتم أدرى وأذكى من ميشال فوكو، الفيلسوف الفرنسي الذي يرى في الأحداث فتحا ثوريا وسياسيا جديدا؟”.

لا أحد محصنا ضد الأوهام.. مرت أربعون سنة وأبدت الأيام ما كان فوكو به جاهلا وبينت أن مخاوف الديمقراطيين كانت في محلها.

ما هي الأسباب التي جعلت عالم النفس المبجل في فرنسا وخبير الجنون يرى في جنون الخميني ومناصريه “روحانية” تفتقدها السياسة في الغرب؟ ما أذهله في إيران، يكتب الفيلسوف، هو عدم وجود نزاعات بين عناصر مختلفة، لقد رأى جبهة شعبية واحدة ضد الدولة المتسلطة.. هل يعقل أن يتم إنكار التمايز الاجتماعي والإثني والديني والسياسي بهذه السهولة من لدن عقل من أشهر العقول الغربية في القرن الماضي؟ ألا يمكن تصنيف موقفه ضمن نظرة بعض الغربيين الذين ينظرون إلى المسلمين والعرب- ببراءة أحيانا- نظرة تأحيدية: إله واحد، حزب واحد، شعب واحد، زعيم واحد وأربع زوجات!

كيف يمكن لرجل مثل فوكو أن يسقط في مناصرة حركة فاشيستية مثل الخمينية بمجرد أن ترفع لواء الدين وتعادي الأمر الواقع العالمي رغم معايشته المباشرة لأحداث طهران حيث كان مبعوثا صحافيا لجريدة “كوريير ديلا سيرا” الإيطالية والأسبوعية اليسارية الفرنسية “النوفال أوبسرفاتور”؟

يعترف من كان مشهورا بتحليلاته للسلطة والخطاب والسجون والمستشفيات والجنون، أنه لم يكن يعرف إلا الشيء القليل عن التاريخ والفكر الإسلاميين، وهذا ليس عيبا في حد ذاته بل ما هو غير مفهوم ذاك التسرع الذي أبداه في محاولة تبرير ما كان يرى بل أخطأ في تقدير المسار المحتمل للتطورات التي كانت تحدث أمام عينيه إلى حد بدا له فيه اللامعقول روحانية.

ألم يكن الرجل يبحث عن فسحة أمل فلسفية وسياسية بعيدا عن ضيق الأيديولوجيا وانسداد الآفاق في الغرب عموما تحت كابوس الحرب الباردة، ونهاية فترة البحبوحة في فرنسا خصوصا والمسماة فترة “الثلاثين المجيدة”؟ هل كان ذاك تصفية حساب ما مع “مخاطر الحداثة” وتوهم العثور على بديل لها وللنظام الرأسمالي خارج الغرب؟

لئن برّر وجوده كصحافي في إيران أيام التمرد رغم أنه لم يمارس الصحافة من قبل بقوله المشهور “لا بد من أن نوجد حينما تولد الأفكار”، فإنه لم ير الأفكار الفاشية الدينية وهي تولد، على الرغم من وجوده في عين المكان ومقابلته للخميني ذاته وللكثير من المتواطئين معه. لو ألقى نظرة ولو خاطفة على كتاب الخميني حول “الحكومة الإسلامية” — وهو ما يفعله أي صحافي جدي– لكان قد تنبه إلى الأخطار التي كانت تولد. ولكان قد أدرك السطو الذي كان يمارسه الملالي على حركة شعبية متنوعة المشارب ومصادرتهم إياها بالقوة.

هل حقّق الملالي حينما نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب الإيرانيّ وعاثوا في حقوق الإنسان فسادا بتكميم أفواه المعارضة وتكفين النساء في تشادورات وفرض أخلاقوية قروسطية على المجتمع ما كان يراه ميشال فوكو شكلا من أشكال “الروحانية السياسية” المفتقدة حسبه في أوروبا المعاصرة؟ هل صحيح أنّ ما شاهده وكتب عنه بإعجاب كان تمردا فريدا على النظم العالمية، كما كان يقول؟ هل كانت “الثورة الإيرانية” انتفاضة شاملة فعلا على السلطة كما كان يدّعي؟

 ماذا كان يمكن أن يقول لو كان حيا يرزق عن الوضع “الروحاني” الذي آلت إليه بلاد القوميات المقموعة تحت عباءة ولاية الفقيه؟ ما هي الوصفة التي كان يمكن أن يهديها للإيرانيات لتهدئة غضبهن وللتخفيف من أوجاعهن اليوم من جراء ما أصابهن من ويلات تحت نير “السياسة الروحانية” التي بشر بها وتحمس لها آنذاك؟

 لم يعر صاحبنا أدنى اهتمام للتحفظات التي أبدتها كثير من الجمعيات النسوية ومخاوفها المبكرة من المسار الخطير الذي كانت تنزلق نحوه تلك الحركة التي حولها الإسلاميون إلى حركة رجعية، والتي سميت زورا “ثورة”.

ما هي النصائح التي كان يمكن أن يقدمها لإخوانه في الاختيار الجنسيّ، المثليين الإيرانيين المشيطنين في الجمهورية الإسلامية لكي لا يرجموا أو يُزجّ بهم في غياهب السجون بعد أن يغتصبهم “حرس الثورة” بكل روحانية؟ هل كان ولع فوكو بالموت وراء إعجابه بالمتطرفين الإسلاميين العاشقين للشهادة؟ تحدث فوكو عن “فتح بُعد روحي للسياسة”، فهل هذا الفتح المبين هو تلك المحاكمات المخجلة والإعدامات العلنية لليساريين والديمقراطيين وكل المعارضين لجنون آيات الله؟ هل فات صاحب “المراقبة والعقاب” أنّ الحكم الدينيّ مولع دوما بقطع الرقاب؟ نقرأ في نهاية مقالته “بماذا يحلم الإيرانيون؟” “ماذا يعني لسكان هذه الأرض البحث عن شيء قد يكلفهم حياتهم، البحث عن شيء نسينا إمكانية إيجاده منذ عصر النهضة وأزمة المسيحية الكبرى ألا وهو الروحانية السياسية”.

ويضيف “أكاد أسمع الفرنسيين يضحكون، لكنني أعرف أنهم على خطأ”. لا أحد يضحك اليوم بل العبارة تثير شفقة من يعرف ما يعانيه الإنسان في إيران.

حينما يأتي يوم تعاد فيه كتابة “تاريخ الجنون” بموضوعية، سيكون فيه لفترة “الجمهورية الإسلامية” نصيب وافر من الصفحات وسنقف على تفاصيل سقوط ميشال فوكو في فخ “التقية” الشيعي. هل كان موقف فوكو من الخمينية مجرد هفوة، أساء فيها فهم الأحداث أم أن القضية تتعدى إلى وجود صلة ما بكل كتاباته النظرية ورؤيته الفلسفية؟

10