شيء من الإثارة

اليوم وللأسف لم نعد نبيع أخبارا لإعلام النّاس وإفادتهم بل صرنا نبيع قرّاءنا جرعات من الإثارة ولم نعد نقدّم لزبائن مطاعمنا غذاء متكاملا بل صرنا نزقّهم الإثارة لقمة لقمة.
الأربعاء 2019/02/13
بيع الإثارة

في زمن غير بعيد، لم تكن هناك فضائيّات ولا إنترنت وكانت حياتنا بسيطة ونحن نتنقّل بين موجات معدودات من موجات الرّاديو وقناتين: الأولى وطنية والثانية إيطالية نلتقطها بواسطة هوائي بدائي وبفضل القرب الجغرافي بين سواحلنا التونسية والسواحل الجنوبية للرواما. أي نعم الرواما، هكذا كنا نسمي كل الأوروبيين نسبة إلى روما، ولعل ذلك نتاج لرواسب قصص السابقين عن ملحمة حنبعل العظيم وصمود قرطاج أمام روما، قرطاج قبل آلاف السنين من الآن.

وكم أشتاق إلى ذاك الهوائي البدائي وإلى عذاباتنا ونحن نحرّكه فوق سطح البيت، شتاء وصيفا، حتى يصيح بنا أحدهم من داخل المنزل قائلا “الصّورة واضحة والصّوت كذلك”. وبفضل ذاك الهوائي وقتها، تعلّم الصّغير والكبير منا الإيطالية وصرنا نتحاور بها أحيانا ونحلم بأشياء لم نكن نحتاجها ولم تكن متوفّرة في أسواقنا ودكاكيننا كلوح الثّلج مثلا والمدفأة وجبنة البارميزان وأنواع الشوكلاطة الأجنبية المختلفة وقارورات العطر الغالية وغيرها.

منطقيّا لم نكن نحتاج إلى كل تلك السلع ولكنها كانت موضع اهتمام لنا جميعا لأنها مختلفة ولأن طريقة عرضها على شاشة القناة الإيطالية كانت مثيرة جدا. لكننا لم نكن نعلم أنّ الإثارة سكين ذو حدين: أولا الإثارة لا تدوم فالذي يثيرك اليوم قد يضجرك غدا. ثانيا الإثارة لها مضاعفات خطيرة وأخطرها الإدمان وهذا يعني أنك ستمضي حياتك غالبا في البحث عن مصدر للإثارة حتى تجده وتضجر منه وتتركه فتبحث عن غيره.

وبالعودة إلى أيّامنا هذه التي اختفى فيها الهوائي من فوق سطوحنا بعد أن استبدلناه بأطباق استقبال تطير بنا بين القنوات الفضائية، تظل رحلة البحث عن الإثارة متواصلة. ولعل الأمر صار أكثر تعقيدا مع تعدّد موجات الرّاديو وتراكم مواقع الإنترنت وظهور التطبيقات وغيرها من الوسائل التي تفتح أمام أعيننا مساحة غير محدودة بفرص لا متناهية لتطوير إدماننا على الإثارة وصولا إلى حالة مرضية قد يستحيل الشفاء بعدها.

وإن اعتبر البعض توصيفي للأمر مبالغة فليتأمّلوا قليلا في ما حولهم: كم من مقالة جميلة لم نقرأها ونقرنا على رابط غيرها لأنّ العنوان مثير؟ وكم من فيلم عبقري لم ينل حظه بسبب انشغالنا بغيره من الأفلام التي أثارت ضجّة؟ وكم من كتاب ثمين ضاع بين الرّفوف ونحن منشغلون بمتابعة مغامرات “هاري بوتر” وأحداث “صراع العروش”؟ وكم من شخص نبيه لم ننتبه لوجوده ونحن منهمكون في تصيّد أخبار المشاهير والنّجوم؟

 يكفي فقط أن أحوّل نظري بين الأشياء التي اقتنيتها بأثمان خيالية ولم أكن أحتاجها: مضرب البيسبول الذي يذكّرني بشخصيتي المفضلة في مسلسل “الأموات السّائرون”، معدّات اللياقة البدنيّة التي لا أستعملها ولكنها تساعدني على الحلم بلياقة أفضل كلياقة “مادونا” مثلا، قبعة البيريه التي تطل من فوق الرف لتستقبل الزائر وتعلمه أنّ آخر صيحات الموضة قد مرّت من هنا وغيرها من الأشياء التي لا أفهم كيف دخلت بيتي؟ ولم؟ ولعلي أفهم: هي أشياء أثارت ربّما شعورا أو مشاعر ولكنني بعد تجاوز وقع الإثارة تفطنت لانعدام فائدتها وضجرت.

وتبقى الأسئلة المطروحة هنا: ما الإثارة؟ وكيف تتحرّك؟ ولم يقبل الجميع على استهلاكها غير آبهين بالتّكلفة؟ من المعلوم أنّ الاهتمام مشروط بالإثارة فنحن لا نهتمّ لأشياء، أو أشخاص، لا تثير ولا تؤثّر سلبا كان ذاك أو إيجابا. ولكنّ التجربة والواقع المعيشي أظهرا لنا حقائق مخيفة ومن أهمّها أنّ الإثارة السلبية أكثر وقعا وفعالية من تلك الإيجابية، وهذا ما يفسّر انتشار عدد من المظاهر الهدامة كنشر الإشاعات بغرض استجلاب المتابعين وكاستعمال العنف أو البعض من الألفاظ السوقية في الإعلانات بغرض الدعاية لمنتوج ما وكالتهجّم على الأشخاص وكاللّعب على الغرائز والمشاعر بأنواعها وكالتعدّي على القيم المشتركة أحيانا وكاستحداث قضايا وهميّة وغيرها من الأساليب التي تعوّدنا عليها ومازلنا رغم نقدنا لها نقع في فخّ ارتداداتها ولا نعكس خط السّير.

ويبدو ولحسن الحظ أنّي قد بدأت أشفى من إدمان الإثارة وأطوّر مناعة قويّة ضد الظاهرة نفسها. مثلا لم أعد أنقر روابط العناوين المثيرة على الإنترنت وأوجدت لنفسي طرقا معقّدة ولكن مجدية لانتقاء ما يستحق المشاهدة. هجرت حتّى كل المحطات التونسية وقاطعت الإعلانات والراديو أيضا واخترت لنفسي بعض المجلات والصحف دون غيرها عسى أن أجتنب أي شكل من أشكال الإثارة أو التأثير السلبي. ولعلي صرت أتحسس من الكلمة نفسها متى زجّ بها أحدهم في جملة أو تعليق.

فمثلا، قبل أسبوعين من اليوم كنت قد أرسلت لإحدى صديقاتي بأقصوصة كتبتها لغاية التجربة لا غير. وبالطّبع قرأت صديقتي ما أرسلت وهي تعلم أنّي لم أكتب في النّوع الأدبي من قبل. وبعد التمعّن اتصلت بي وقالت “محاولة متواضعة ولكنّها طيّبة”. ثمّ أردفت “أظنّ أنّ ما ينقصها هو عنصر الإثارة”. وكانت تلك الكلمة الأخيرة كافية حتّى أفهم أنّ حظوظي مع الأقصوصة كحظّي مع الشركة التونسية للطّيران، في تأخير دوما إن لم تلغ الرّحلة.

وبعد تلك الحادثة بيومين، خرجت للعشاء بأحد المطاعم فطلب أحد المرافقين طبق مكرونة بيضاء بجبنة البارميزان ولكنّه بعد تناول الملعقة الأولى أطرق برهة ثمّ قال “تعوّدت على تناول هذه المكرونة وقد كانت أطيب طعما في البداية ولكنّ شيئا من الإثارة ينقصها الآن… كالصّلصة الحارّة مثلا”.

ويمكن لمتخيّل أن يتخيّل مذاق المكرونة البيضاء بجبنة البارميزان مع الصّلصة الحارّة وعواقب تناول مثل هذا الطّبق المثير.

وإن شبّهنا الإثارة اليوم فلن نجد صورة أصدق من صورة كرة الثّلج التي بدأت صغيرة وتحوّلت إلى كتلة عملاقة تلتهم كلّ من يعترضها فتأخذه معها في متاهات استهلاكية لم يخترها لنفسه. وقد يتحدّث خبراء التّسويق عن الخدمات والسّلع ومدى جودتها ولكنّهم يعلمون جيّدا أنّ الجودة ليست كافية لأن الطّلب الحقيقي للمستهلك هو ما يحدد العرض والمستهلك قد أدمن الإثارة بغض النظر عن بقيّة المواصفات.

اليوم وللأسف لم نعد نبيع أخبارا لإعلام النّاس وإفادتهم بل صرنا نبيع قرّاءنا جرعات من الإثارة ولم نعد نقدّم لزبائن مطاعمنا غذاء متكاملا بل صرنا نزقّهم الإثارة لقمة لقمة ولم يعد هناك من أهل السياسة من يطرح علينا برنامجا جديّا لحلّ المشاكل فالكلّ منشغلون بالحوارات المثيرة والتصريحات المستفزة.

وختاما لكلّ مستمتع بالزفّة، زفّة الإثارة للمتأثّر بها، أنصحه بتقليل التكلفة وبالبحث عن الفائدة التي لن يجدها حتما في أهل الإثارة ولا في إخوانها وجيرانها وكلّ من تعلّق بها.

18