في توصيف الظاهرة

في الواقع لا أستطيع أن أسبغ أيّا من تلك الصفات على أدب لطفية الدليمي المختلف والعميق والخارج عن إطاره الزمني ومناخه الاجتماعي، ذلك الأدب الذي خدمته شخصية الكاتبة وحضورها القوي.
الأربعاء 2019/02/13
حضورها المتصاعد في المشهد الثقافي العراقي والعربي ظاهرة معرفية

في توصيف الظاهرة الثقافية وملامحها وأسباب تبلورها، يعتقد كثيرون بأنّ الأمر مقتصر على مجموعة رؤى وتفاعلات وآراء متضادة قد تحدث صدى يحفز على المناقشة والجدال، لكنّني هنا أتجاوز هذا التوصيف إلى الحالة الفرد، وكيف يمكن أن يشكّل ظاهرة من نوع ما، مثل الكتابة عن لطفية الدليمي. ليس الكاتبة والمترجمة والناشطة المدنية، بل الظاهرة الثقافية المتواصلة والمتجددة، لجهة إصرارها على الحضور الفاعل، سواء في الصحافة الثقافية أو التأليف الإبداعي والترجمة والإعداد والمتابعة أو حتّى في الحياة الثقافية.

تعود معرفتي بالكاتبة إلى أيّام البدايات الوجلة، عندما كنا نحمل نصوصنا المرتبكة إلى مجلة الطليعة الأدبية التي كانت تُعنى بأدب الشباب آنذاك، فكانت تستقبلنا بابتسامتها المشرقة وقَصة شعرها القصيرة دومًا وأناقتها اللافتة. كان الأمر أكثر من كونه مجرد امرأة جميلة طافحة بالإشراق، تجلس في مكتبها وتقرأ قصصنا. وبالنسبة إلى شاب حيي قادم من الجنوب الفقير يتعثّر بتطلعاته البكر، كان الأمر أشبه باجتياز عتبة التردد ودخول عالم النّور المعطّر. وكان النشر في المجلة، التي نطالعها في مدننا البعيدة، بمثابة تذكرة مرور لعالم الإبداع ممهورة بالحضور العطر لتلك السيِّدة.

حتى عندما قرأت أولى رواياتها “عالم النساء الوحيدات” التي وقعت بين يدي صدفة، لم يتزعزع إيماني بحضورها واختلافها وعمقها، بل ازدادت تلك الصورة التي احتفظ بها وضوحًا وترسّخًا. وعلى الرغم من أنّني لم ألتقِ بها كثيرًا في بغداد، إلاّ أن عالمها الروائي المشيّد بين “عالم النساء الوحيدات” و”سيِّدات زحل”، طالما شكل لدي مخاضة إبداعية شاسعة قلما نجد لها مثيلا. على الأقل عندنا في العراق، حيث بقي أدب المرأة متواريًا نسبيًا وحييًا.

في الواقع لا أستطيع أن أسبغ أيّا من تلك الصفات على أدب لطفية الدليمي المختلف والعميق والخارج عن إطاره الزمني ومناخه الاجتماعي، ذلك الأدب الذي خدمته شخصية الكاتبة وحضورها القوي في أن يتفرّد بهذه الطريقة المخالفة لما كان سائدًا في العراق. لقد لعبت عوامل عدّة في تحول الكاتبة إلى ظاهرة ثقافية ومعرفية ما زالت تترسّخ ملامحها عاما بعد عام، منها أن أدبها لم يقتصر على نمط معين من الكتابة الإبداعية، فهو متنوع وساع إلى التجريب واستغلال الممكنات بعيدًا عن التنميط والتجنيس، ومنها أن ثقافتها الواسعة وإجادتها للغات أخرى مهمّة مهّدت لها الدخول إلى عالم الترجمة الواسع والمهم والحيوي، كما أن تجربتها الشخصية في السفر والغربة والتغرّب، وما عانته ككاتبة امرأة في سِفر المدن الغريبة قد منحها رؤية واسعة وذاكرة متخمة بالصور والمواقف والتناقضات، لتتحول بعد كل ذلك إلى كاتبة ومترجمة وباحثة يشكل حضورها المتصاعد في المشهد الثقافي العراقي والعربي ظاهرة معرفية من نوع ما.

فأن تكتب رواية تصبح روائيا وأن تكتب قصة تصبح قاصا، لكن أن تكتب رواية وتترجم وتبحث في مناهل المعارف وتواصل حضورك في وسطك وتؤثر فيه وتبتكر الرؤى والأفكار، فأنت ظاهرة ثقافية تتجاوز كيان الكاتب بذاته إلى المحيط الثقافي الأوسع.

فقد استطاع البعض من المثقفين العراقيين القفز على واقع التشتّت وتفتّت المشهد الثقافي العراقي، ليشيّد محيطا ثقافيا فاعلا في البلد الذي يعيش فيه، متناغما مع المحيطات الشبيهة المتناثرة هنا وهناك مثل بقع ضوئية وامضة لتحكي قصة الارتقاء والإصرار على الفعل الثقافي الذي تحول إلى ما يشبه التحدي والمراهنة على عدم موت الثقافة والإبداع العراقي بإزاء ما ينكشف من تفصيلات مهولة لمخطط النيل من كل ما هو وطني وأصيل في العراق اليوم.

14