الباجي قائد السّبسي وقبّعة المفاجآت

بعد ما يقارب تسع سنوات من اندلاع الثّورة التونسية مازال الرّئيس الباجي قائد السّبسي يربك خصومه وحلفاءه وحتى بعض الصحافيين والمحلّلين السياسيين في تونس وخارجها. والرجل، المتسلح بخبرة مسيرة سياسية تمتد على مدى أكثر من سبعين سنة، ليس بالخصم الهيّن ولا بالرجل الذي تسيطر عليه الانفعالات فيتعامل مع التطورات السياسية بعاطفية أو انتهازية.
البجبوج، كما يحلو للبعض تلقيبه تحبّبا، خرّيج المدرسة البورقيبية. وهو شيخ السياسيين الذّي يتمعّن المحلّل السياسي والصحافي والمواطن البسيط في تصريحاته وكلماته متى تأزّم الوضع في البلاد.
هنا يمكن القول إنّ قائد السّبسي مربك لخصومه فعلا. لعلّ سرّ الإرباك الأوّل يكمن في قدرة الرّجل على جلب الانتباه بطريقة تجعل المتابع حريصا على الاستماع إليه. وهذا ليس بالأمر البسيط فالعارفون بالشّأن التونسي اليوم يعلمون جيّدا أنّ الإشكال الأوّل هو عدم قدرة أغلب السياسيين على تبليغ رسائلهم وسط الكمّ الهائل من الرّسائل المطروحة يوميا على وسائل الإعلام وشبكات التّواصل الاجتماعي.
هذا الإشكال الذّي يواجهه العديد من رجالات وسيّدات السّياسة في تونس باعتباره حالة جديدة وجب التّأقلم معها، تمكّن المخضرم قائد السّبسي من تجاوزه فور عودته للواجهة السياسيّة في فبراير 2011 حيث تمكّن، وفي مدّة وجيزة، من السّيطرة على الوضع المتأزّم وتحقيق مناخ مناسب لتنظيم انتخابات في نفس السّنة، والتّي سلّم قائد السّبسي إثرها مفاتيح السّلطة لحمادي الجبالي في أوّل مظهر من مظاهر الديمقراطيّة النّاشئة في تونس.
ويبدو ممّا سبق أنّ الكاريزما والحنكة السياسيّة لعبتا دورا محوريّا في تلك المرحلة وتحوّلتا مع الوقت إلى سلاح ناعم يحمله قائد السّبسي في مواجهة خصومه من ناحية وفي دفاعه عن مكاسب الجمهوريّة الأولى التّي أسّسها الزّعيم الحبيب بورقيبة، من ناحية ثانية.
الرئيس التونسي مربك لخصومه أيضا لأنه الوحيد تقريبا الذي بقي ثابتا على مواقفه في ساحة سياسية تميّزت بالتلون ما بين الأحمر الوطني، والأزرق الإسلامي والبنفسجي (لون الحزب الحاكم في تونس قبل 2011) الذي يروج لنفسه كخليط من هذا وذاك.
قائد السبسي، وبعد مرور سنوات على توليه رئاسة الجمهورية، تمكن من الحفاظ على التوازنات السياسية بما يحفظ المصلحة الوطنية ويحقّق نوعا من السّلام المجتمعي.
وبالتمعّن في أداء رئاسة الجمهوريّة من سنة 2014 إلى اليوم، يتبّين للمتابع أنّ قائد السبسي نجح في مهمّته في مرحلة أولى وتمكّن بذلك من النّأي بالمجتمع التونسيّ عن كلّ محاولات الاستقطاب والتي من شأنها أن تنتج شكلا من أشكال التّدافع السياسي ممّا قد يهدّد التجربة الديمقراطية في بلد كان ولا يزال في حاجة إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي لتجاوز أزمته الاقتصادية.
ولكنّ المرحلة الأولى، ولسوء حظ التونسيين، لم تدم طويلا. وانتقلوا إثرها إلى مرحلة ثانية يسمّيها البعض باختصار مرحلة الانشقاقات والانسلاخات. تلك المرحلة هي التي مكنت حركة النهضة من العودة بقوة للسيطرة على الساحة السياسية ودواليب الحكم بطريقة شبه مطلقة. وتصرّف حركة النّهضة وإن كان يبدو للبعض غريبا فهو أيضا متوقع.
هكذا هي حركة النهضة، غريبة على المجتمع التونسي ولكنها في نفس الوقت واضحة في أهدافها وأجندتها. فإن كان قائد السبسي عمل منذ توليه رئاسة الجمهورية على تغليب المصلحة الوطنية فإنّ حركة النهضة كانت تسعى وراء مخرج من خسارتها الانتخابية في 2014. وإن كان قائد السبسي بذل جهدا في جمع شتات الأحزاب الديمقراطية والتقدمية في البلاد فإنّ النهضة ركّزت جهدها وجميع إمكاناتها لتفريق ما تمّ جمعه وللبحث عن شريك آخر في الحكم يمكّنها من خدمة مصالحها. ولم يكن قائد السّبسي بالطبع ذلك الشريك الذي ترغب فيه حركة النهضة وهو الذي أربك حساباتها وبقي ثابتا ومتمسكا ببرنامجه ومشروعه الوطني الذي لا يتناسب قطعا مع أهواء حركة النهضة ومصالح حلفائها خارج البلاد.
وبما أنّ الذّكرى قد تنفع المؤمنين، فلنذكّر بأوّل إرباك حقّقه قائد السبسي في ملعب النهضة والمتمثّل في خلط جميع أوراقها بتأسيس حزب ناشئ جديد استطاع في فترة وجيزة جمع شتات القوى الديمقراطية وقطع الطّريق أمام انتصار ثان للإسلاميين.
لم تكن المسألة وقتها مسألة ربح أو خسارة أو قضيّة انتخابات ومسار ديمقراطي بقدر ما كانت مسألة مصيريّة قد تحدّد مستقبل البلد بأسره. إذ أنّه وبعد سيطرة النهضة على الحكومة والرئاسة ومؤسّسات الدولة كاملة من 2011 إلى 2014 تبيّن للتونسيين خطر هذه الحركة على قيم الجمهورية ومكاسب البلاد منذ استقلالها في مارس 1956. والخطر حينها اتّخذ أشكالا مختلفة لم يكن يعرفها أهل تونس من قبل فكانت الأزمة أو الفترة السّوداء التي تماهت مع لون الرّايات السّود لحزب التحرير وأنصار الشّريعة والتي رأيناها ولأوّل مرّة ترفرف في شارع الحبيب بورقيبة وفي العديد من المحافظات التونسية.
ولم تكن الرّايات السّود وقتها سوى استهلال لأحداث كارثيّة أخرى كتأزيم العلاقات مع أكثر من دولة عربيّة وتسييس المساجد وتسفير الشّباب التونسي إلى بؤر التوتّر وتهديد الحريّات العامّة والفرديّة والاغتيالات السياسيّة وغيرها من التطوّرات والأحداث التي مسّت مصلحة البلاد والعباد وأفقدت التونسيين حتى الأمل في استرجاع وطنهم وتصحيح المسار.
ويبدو أنّ حركة النهضة، المنشغلة بخدمة مصالح حلفائها من الإسلاميين في المنطقة حينها، لم تتفطن لانزلاق حكمها نحو منعرج خطير؛ ولعلّها تفطنت وآثرت خدمة أجندات الإسلام السياسي على خدمة المصلحة الوطنية في تلك الفترة. وهنا نعود إلى دور قائد السبسي الذي وضع حدّا لهذا الانزلاق وتمكّن من تحجيم نفوذ الحركة بعد أن تمكّن حزبه الناشئ من هزم الإسلاميين في انتخابات سنة 2014.
لا أعتقد أنّ النهضة قد نسيت هزيمتها والإرباك الذي صنعه قائد السبسي حين غيّر المعادلة تماما في 2014. وهذا ما قد يفسّر انقلابها على التّوافق السياسي وسعيها لتحويل وجهة الحكومة الحاليّة من “حكومة وطنيّة” إلى حكومة تابعة ومن حكومة تابعة إلى نواة حزب جديد قد يلعب دور الذّيل في التّحالف القادم بعد انتخابات 2019.
لكنّ قائد السبسي الذي نجح في تحجيم نفوذ الإسلاميين مرّة قد يفعلها ثانية وهذا ما تخشاه حركة النهضة فعلا. فرغم المبالغات في تقدير قوّتها الفعليّة، تجد الحركة اليوم نفسها وحيدة ومعزولة مع حكومة ضعيفة. وعزلة النّهضة هي فارق آخر صنعه قائد السبسي بعد قطع العلاقات في سبتمبر العام الماضي بقرار يعتبره إرباكا ثانيا للحركة.
على خلاف ما يعتقده البعض ممّن يعتبرون قرار قائد السبسي مجرّد ردّة فعل فإنّ قطع العلاقات مع النهضة قرار مدروس للزج بالحركة في خندق لم تختره حيث وجدت نفسها شبه معزولة في مواجهة القوّة الأكبر: قوّة الرأي العام الذي يلفظ اليوم جميع مناوراتها السياسية ويعرّي خططها ويحمّلها مسؤولية الأداء الهزيل للحكومة.
بعيدا عن حركة النهضة، يبقى قائد السبسي أيضا مربكا لخصومه من الشقّين الوسطي واليساري. فالوسطيون لم يتمكّنوا بعد من إنتاج طرح جديد قد ينأى بهم عن تهمة الاستنساخ واجترار تجربة حزب نداء تونس والمدرسة الدستورية. أمّا اليساريون فهم على ما كانوا عليه منذ ثلاثينات القرن الماضي في غياب المراجعات.
ولا أظن هنا أنّ الإرباك السياسي الذي احترفه قائد السبسي قد ينتهي قريبا، ولعلّ أكبر دليل على ذلك هو ردود الفعل الأخيرة التي تناولت حديثه مع جريدة “العرب”. فبينما وصف بعضهم تصريحاته بالحديث الصّريح والتقييم الموضوعي لواقع الشّأن التونسي اليوم، اعتبرها البعض الآخر مناورة سياسية جديدة وضع الرئيس التونسي من خلالها ورقة اللعب الأولى على طاولة الاستعداد للانتخابات القادمة.
ومن الطبيعي أن تكون القراءات لحوار قائد السبسي مختلفة باختلاف المواقف والتوجّهات السياسية لأصحابها. وبمتابعتنا ورصدنا لردود الفعل، توقّفنا عند نقطتين محوريتين: الأولى وهي الاهتمام المتواصل بمواقف الرئيس التونسي كما عكستها التغطية الاعلامية الواسعة لتصريحاته، سواء في تونس أو خارجها. أمّا النقطة الثانية فهي حالة الإرباك التي أثارها قائد السبسي في معسكر خصومه وحتى في صفوف من كانوا يوما من قياديي وأعضاء حزبه من الندائيين المنشقين. وهجرة المنشقيّن وإن كانت تبدو للبعض إضعافا لنداء تونس فهي في جوهرها خدمة للحزب ومؤسّسه في مرحلة كان يحتاج فيها هذا المكوّن السياسي ترتيب الصفوف وتوحيد التمشي بطريقة قد تجنبه تبرير التصرفات الفردية والتجاوزات التي صدرت وقد تصدر عن أشخاص لم يحملوا معه عبء المشروع.
ولا أظن أنّ مثل هذا الأمر قد كان خفيّا على قائد السبسي الذي تعامل مع كل الانشقاقات بهدوء ونأى بشخصه عن كل التجاذبات السياسية وجنّب رئاسة الجمهورية أي انتقادات.
وبالعودة إلى الحوار مع “العرب” وإلى الرجل الأكثر إرباكا لخصومه في تونس، يبقى عدم الإفصاح عن النّوايا اللغز الأكبر. فهل مازالت في قبّعة شيخ السياسيين مفاجأة أخرى؟ وهل ستغيّر النهضة مخططاتها بعد أن انكشفت للرّأي العام أو لعلّها تورّطت نهائيّا بعد أن أحرقت جميع مراكبها؟
هي أسئلة كثيرة والإجابات عليها قد تأتي في الأسابيع أو الأشهر القادمة لكنّ المؤكد هنا أنّ قائد السبسي سيلعب دورا كبيرا، إن ترشّح للانتخابات الرئاسية أو لم يترشح. والمؤكد أيضا أنّ المسألة لن تكون مسألة ربح أو خسارة أو قضية انتخابات ومسار ديمقراطي بقدر ما ستكون مسألة مصيرية قد تحدّد مستقبل البلد بأسره ومستقبل الصراع الدائم بين الحركات الوطنية في العالم العربي وتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة.