الأرشيف والحداثة

مع كل فقدان لأحد رجال الدولة، أو الزعماء السياسيين، ممن كان لهم دور بارز في صناعة مصائر شعوبهم وبلدانهم، تتعالى الأصوات المتأسفة على غياب شهاداتهم عما أدوه من أدوار سياسية وما ساهموا في صياغته من مواقف وقرارات، في شكل مذكرات أو سير تضم وثائق وأرشيفا شخصيا، قد يهم الباحث والمؤرخ والصحافي، مؤلفات تسلط الضوء على عوامل النجاح آو أسباب الفشل، للتعلم والاعتبار.
نحن نعلم أن المجال السياسي في غالبه محفوف بالتحفظ وبالرموز وأحيانا بالخرس التام، لهذا حتى تلك الوثائق التي تصدر متأخرة جدا عن ملوك ورؤساء دول أو عن معارضيهم، غالبا ما يكون المحجوب فيها أكثر من المكشوف، ربما لأن الفاعل السياسي العربي يعتقد أن أدواره لا تنتهي بوفاته، وإنما تمتد في حيوات أجيال من مجتمعه، وأن الحكمة وقبلها المسؤولية السياسية تقتضيان ترك فسحة من الصمت، وعدم التشويش على العقب، في حقل ما فتئت تعقيداته تتفاقم. لهذا أتفهم كمّ الاعتراضات التي تطول مذكرات القادة كما أتفهم أيضا تلك اللوعة التي تصاحب غياب أخرى.
يتصل هذا التقليد الصامت والرهاب المتفاقم من وجود الوثيقة أو الإدلاء بالشهادة بتقليد سياسي أكبر، يتعلق بحجب جل الأرشيف المتصل بالأحداث السياسية العربية إلى ما لا نهاية، حيث لا توجد مدة زمنية مقدرة في ثلاثين أو أربعين سنة لتقديم الأرشيف المتعلق ببعض قضايا الدولة للباحثين، لم تفتح إلى اليوم وثائق أغلب الحروب العربية ومفاوضات الاستقلال، والانقلابات العسكرية، والاغتيالات السياسية، لم تتحول إلى ذاكرة وما زالت تحتفظ بمضمون سياسي.
والحق أنه لا يمكن أن نتحدث عن أرشيف أو شهادة في مجتمعات لم تحسم في وضع انتمائها إلى الحداثة، وما زالت مرتبكة في إيجاد مصالحة بين التقليد والأبوية والمحافظة من جهة والتمدن والعقلانية والانتماء إلى العصر من جهة ثانية. ولا يمكن أن نتحدث عن أرشيف سياسي ضمن عقلية ما زالت فيها وثائق أكبر هزيمة مني بها الوطن العربي في ستينات القرن الماضي غير متداولة ولا متاحة للباحثين.
الأرشيف قرين الديمقراطية والمصالحة مع الذات، شيء لا علاقة له بمشاعر الرضى والسخط أو التشفي والندم، الأرشيف معلومة لا يمكن محاسبتها ولا شطبها من رصيدنا ولا التحسر على وقوعها، كل ما يمكن أن نقوم به بصددها هو دراستها وتحويلها إلى معرفة لأجل المستقبل.