لننقرض جميعا من أجل عيون قطر

“يوزن المرء بقوله، ويقوّم بفعله”، قالها العلّامة عبدالرحمن بن خلدون، خريج جامعة الزيتونة التونسية منذ زمن من الآن، ولكن النّسيان من عادتنا نحن البشر حتّى تأتي علينا أيّام عصيبة نترك فيها ما يروج من تحاليل ونقد، ونعود لننبش في الماضي علنا نجد في حكمة السابقين أثرا قد يقتدى به للخروج من عنق الزجاجة.
وتونس اليوم وبعد أكثر من ثماني سنوات عجاف بعد ثورة 14 يناير 2011 لم تجد مخرجا بعد، بل وأعتقد أنها لم تجد حتى الزجاجة نفسها وسط الكم الهائل من البضائع التركية والصينية والأوروبية التي سُمحَ لها بدخول السوق الوطنية لتتزاحم مع صناعات محلية صغيرة لم تطوّر قدرتها على التنافس.
ولحصر الأزمة في بضع كلمات دون إطالة: التونسيون اليوم كالغارق الذي يبحث عن طوق نجاة ويمد يديه فيجد التركي والقطري والفرنسي وغيرها من الأطواق المتاحة بشروط وبثمن قد لا يتساءل الغارق عن قيمته وهو يصارع أمواج أزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
ولكنّنا شعب صبور فإن لم تكن ثمان عجاف كافية فثمان أخرى والزمن كله إن تطلّب الأمر. كلام جميل ولكن هيهات، لسنا كلنا شعبا صبورا فنحن ألوان وأطياف واتّجاهات مختلفة وبعضنا لا يصبر حتّى يوما واحدا وبعضنا الآخر ملّ الصّبر والانتظار. هذه هي تونس: ليست شعبا متجانسا على لون واحد، كي يتملّق له بعض السياسيين على شاشة التلفزيون القطري ويغالي في توصيفه بالعظيم، بل ويسند له ضمير رفع فيصبح شعبه هو وحده دون استفتاء ولا حتّى انتخابات.
لن أسمي هذا السياسي فبعضكم يعرفه ويعرف القناة القطرية ويعرف حتى الأجندة السياسية لقطر وأصدقائها في وطننا العربي. وأعتقد أنه من العادي أن لا نسمي هؤلاء لسبب واحد: كفانا تسمية وتكرارا لذكر أشخاص فشلوا في مهمتهم وعمقوا أزمة بلادهم وتملقوا للأجنبي وركبوا موجة الشعبوية لاقتناص أصوات الحالمين والبسطاء. ولست من يقول هذا فالأرقام متى فتحنا السجلات الماليّة وراجعنا المردود الكارثي لسنوات حكم الترويكا من 2011 إلى 2014 شاهدة على الفشل الذريع لسياسات من توقّفت عن تسميته.
لتكن الإمارات العربيّة المتّحدة مثلا لكم يقتدى به، بعيدا عن التشنّجات الإقليمية والمناكفات السياسية وليبقى صراعنا صراعا سياسيّا واجتماعيّا فلا دخل للحبارى والأرانب والغزلان التي لا ذنب لها
وعلى ذكر القناة القطرية، أتوقف عند قطر وأعتذر مسبقا للشعب القطري عن كل لوم أو تجاوز قد يصدر مني انطلاقا من الآن. فرغم كل الإساءات الصادرة عن حكومته مازلنا نتعقل ونفصل بين شعب محكوم لا إرادة له، وبين دولة تحمل أجندات أضرت بالكثير من أوطاننا وعمقت أزماتنا. وأعلم أن الوهم يباع يوميا للشعب القطري بيد حكومته التي تجند إعلامها ومنظماتها لتقنع المواطن البسيط بأنه هو المستهدف من كلّ انتقاداتنا. بيد أن الحقيقة عكس ذلك تماما، فنحن في تونس عشنا فترات سياسية مختلفة وكنا على مدى سنوات في قفص الدكتاتورية، كما هو حال القطريين اليوم، وكنا نشكر الله متى ذكرنا صحافي بسيط في مجلة ما على أمل أن تخرجنا مقالته من عجزنا عن التعبير.
وكم أتمنى أن أقرأ من قطري حر كلمة حرة واحدة يكسر بها جدار الصّمت في بلاده، قافزا فوق الخوف وفوق القفص الذهبي الذي صنعه حكامه من إيرادات الغاز وفي غياب أي حنكة سياسية غير حنكة الأرض في منح خيراتها دون مقابل.
يقول حكام قطر إنهم يدعمون الديمقراطية، أما نحن فنزيد عليهم في دعمها ممارسة ونقول لهم إنّ فاقد الشيء لا يعطيه. ويقول حكام قطر إنهم من أنصار الحرية، كلّ الحريّة، ما عدا حريّة القطريين أنفسهم. ونسمع من حكام قطر وأبواقهم انتقادات لاذعة لسياسات الجيران وأوضاع تونس والجزائر ولبنان ومصر، ولكننا لا نسمع عن أهلنا أو من أهلنا في قطر شيئا في ظل سياسة تعتيمية محكمة. وعلينا بالطبع أن نصدق أن لا شيء يحصل في قطر. سبحان الله. يدعم حكام قطر حرية المرأة والرجل وجميع الحريات الفرديّة في كل بلاد الأرض، ما عدا قطر. ويدافعون عن القانون في دول الغير لكنّهم يغتاظون متى كان القانون غير متطابق مع مصالحهم أو مشوها لصورتهم التي طالما أنفقوا على تجميلها في الخارج والداخل.
صحيح أن التونسيين غارقون الآن في تساؤلاتهم وأزماتهم، وصحيح أن الوضع عصيب ولكنّ تونس في فترة الضعف هذه مازالت قوية كما هي ذاكرة هذا الوطن. فنحن مازلنا نتذكر جيدا دعم حكام قطر لتيّارات الإسلام السياسي في بلادنا، أحزابا ومستقلين. ونتذكر أيضا “المساعدات” أو القروض المشروطة، كما لم ننس تورط الجمعيات الممولة قطريا في تسفير أبنائنا إلى بؤر التوتر.
نحن أيضا نعلم أن قطر تضاعف مجهودها اليوم لاحتواء التقلبات التونسية على أمل أن تبعث الحياة مجددا في جسد الكيانات السياسية التي تحمل أجندة الدّوحة وتدعم توجه حكامها. وهنا نعود إلى مقولة ابن خلدون “يوزن المرء بقوله، ويقوّم بفعله”.
لحصر الأزمة في بضع كلمات دون إطالة: التونسيون اليوم كالغارق الذي يبحث عن طوق نجاة ويمد يديه فيجد التركي والقطري والفرنسي وغيرها من الأطواق المتاحة بشروط وبثمن
قول حكام قطر جميل جدا في ظاهره أما فعلهم فأترك تقييمه للقارئ ثقة مني في ذكاء قرّاء جريدة العرب. لكن لكي أسعف القارئ قليلا، وأستسمحه في أن أعرّج على حادثة القنص في الجنوب التونسي وأتساءل: “لم الحبارى والغزلان والأرانب يا حكّام قطر؟ لم الإصرار على استباحة الأخضر واليابس؟
لنا خصامنا معكم في السياسة ولنا لوم على تدخلاتكم في الاقتصاد والمجتمع والثّقافة، وحتى الدين ولكن ما دخل الثروات الحيوانية المهددة بالانقراض؟ أتريدون لنا أن ننقرض جميعا، بشرا وحيوانا ونباتا؟ وما المصلحة في كلّ هذا؟
أتفهم ولعلي أحاول أن أتفهم افتتان القطريين بالقنص في الصحراء ولكن هذا لا يبرر مخالفة القانون التونسي والهجوم على ثرواتنا الحيوانية بقافلة من السيارات رباعية الدفع مسنودة بطائرة عمودية. أتفهم أيضا عزلتكم الجغرافية وعدم قدرتكم اليوم على ممارسة هوايتكم في دول الجوار التي عاديتموها بتدخلكم في شؤونها، ولكن أليست هناك حلول أخرى؟
أعتقد أن هناك حلولا أخرى فعلا كأن تتعلموا من تجربة غيركم وللإمارات العربية المتّحدة في هذا السياق درس قد يكفيكم عناء السفر إلى شمال وشرق محافظة توزر التونسية. وإن لم تكونوا على علم وقد لا تكونون على علم، فالإمارات لها صندوق لإكثار طائر الحبارى ومشاريع للمحافظة على الأرانب البريّة وغيرها من الحيوانات بل إنّ الإمارات وبفضل هذه البرامج تمكّنت من إسعاف دول أخرى بإطلاق الحبارى المتكاثرة في الأسر وغيرها من الأنواع المهدّدة.
لتكن الإمارات العربيّة المتّحدة مثلا لكم يقتدى به، بعيدا عن التشنّجات الإقليمية والمناكفات السياسية وليبقى صراعنا صراعا سياسيّا واجتماعيّا فلا دخل للحبارى والأرانب والغزلان التي لا ذنب لها.
وفي النهاية، أعود لأستشهد بابن خلدون مرة أخرى حين قال “الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها”، وكم أخاف أن تسوء أخلاقي وأخلاق التونسيين في مواجهة هجمة حكام قطر التي لم نعرف في تاريخنا القديم والحديث شيئا يشبهها.