تفجير منبج.. من المستفيد

كان لتواجد بضعة عسكريين أميركيين في منبج أن يوقف الزحف التركي عليها في سياق عملية درع الفرات التي أطلقتها تركيا شمالي سوريا صيف العام 2016.
كان يوجد تسابق محموم بين قوات سوريا الديمقراطية المكونة أساسا من قوات حماية الشعب الكردية، التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني الذي تصنفه تركيا إرهابيا، وبين تركيا. فالأولى، المدعومة أميركيا، كانت في سياق قتالها لتنظيم داعش ودحره من المناطق الواقعة غرب الفرات تهدف إلى ربط مناطق سيطرتها شرقي الفرات بمناطق سيطرتها في عفرين، لكن تركيا كانت تسعى لمنعها من ذلك، فبادرت إلى حشد قوات المعارضة السورية المسلحة التي تدعمها، وشنت ما أسمته حملة درع الفرات لتمنع قوات سوريا الديمقراطية من التقدم إلى جرابلس بعد أن سيطرت على منبج وطردت داعش منها.
وحين حاولت القوات التركية والقوات السورية المدعومة من تركيا التقدم إلى منبج في إطار سعيها لدفع قوات حماية الشعب الكردية إلى شرقي الفرات، دخلت قوة أميركية رمزية إلى المدينة لتضع حدا لتقدم الأتراك وحلفائهم، ليعودوا إلى التقدم باتجاه مدينة الباب وينتزعوها من داعش.
هنا ندرك مدى تأثير التواجد الأميركي ولو كان رمزيا على الأرض. لأن هذا التواجد كان يرسم حدود التحركات العسكرية لجميع فرقاء الصراع في سوريا بمن فيهم الأتراك.
لقد أتيح لتركيا أن تفصل بين كانتونيْ الأكراد شمال سوريا، ولكن في إطار قتال داعش. ثم أتيح لها دحر قوات الحماية الكردية من عفرين وبالتالي القضاء على كانتون حزب الاتحاد الديمقراطي هناك في إطار عملية غصن الزيتون. لكن المطلب التركي بشأن منبج صادف مفاوضات مديدة مع الأميركان لم تنته بعد. واستمر تواجد قوات حماية الشعب الكردية في منبج بحماية أميركية حتى اليوم.
جاء قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا ليخلط الأوراق. وتقدم الجميع إعلاميا باتجاه منبج. وصدرت تصريحات لمسؤولين في النظام السوري حول دخول قوات النظام إلى منبج، في حين تحركت قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا باتجاه المدينة، بينما سارع الروس إلى القول بقيام دوريات لهم بالتمركز على خطوط الفصل بين الجانب الكردي والجانب التركي. ولم يكن قد حصل شيء من هذا أو ذاك.
القوات الكردية ما زالت في منبج وما زالت الدوريات الأميركية أيضا تتجول هناك.
تفجير منبج قد يقلب الطاولة على الجميع وسيكون المسؤولون عن بناء السياسة الأميركية في المنطقة هم الرابحون، ولا بأس أن يسقط عدد من الجنود الأميركيين، فلن يكون هناك انسحاب من سوريا
وفي غمرة الضغوط على الإدارة الأميركية من قبل القيادات العسكرية الأميركية والحلفاء الأوروبيين، وفي ظل الاستعدادات التركية على الحدود السورية التركية شرقي الفرات، والمناوشات الكلامية بين إسرائيل والقادة الإيرانيين حول تواجد القوات الإيرانية في سوريا، جاء التفجير الانتحاري في منبج ليعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
الرئيس الأميركي ترامب لن يكون قادرا على ترك الساحة السورية بعد هذه العملية. وقد سبق له أن تراجع عن مبدأ الإسراع في سحب قواته منها نتيجة الضغوط المشار إليها آنفا، وخصوصا بعد زيارته إلى العراق ولقائه بالقادة العسكريين الأميركان في قاعدة عين الأسد يوم 26 ديسمبر 2018. حيث أعلن أن الانسحاب من سوريا سيكون مترويا، أما وقد سقط جنود أميركيون في تفجير منبج فإن الأمر سيكون مختلفا. فهل سيواصل الرئيس الأميركي سياسة الانسحاب ولو بشكل متروٍّ؟
هناك أطراف هللت للانسحاب الأميركي، وهناك أطراف وجدت في هذا الانسحاب مأزقا وإرباكا لمشاريعها.
الإسرائيليون ردوا على قرار ترامب بغارات على محيط دمشق استهدفت مواقع إيرانية، أما نظام بشار الأسد، فإنه بات من المؤكد أنه لن يكون متاحا له ملء الفراغ الذي سيحدثه هذا الانسحاب. والإيرانيون كانوا يراهنون عليه رغم إدراكهم أنه ممنوع عليهم ملء الفراغ، ولكنهم سيجدون مبررا فيه للبقاء في سوريا لمقاتلة “الإرهاب”.
أما الأتراك فقد وعدوا أنفسهم بملء هذا الفراغ واعدين الأميركيين بالقضاء على فلول الإرهاب شرقي الفرات، لكنهم واجهوا تصديا أميركيا غير مسبوق حين أعلن أكثر من مسؤول أميركي رفضا تاما للتعرض لحلفائهم الأكراد، وصولا إلى تأكيد الرئيس الأميركي، نفسه، على الموضوع مهددا تركيا بالاقتصاص منها في حال تعرضت لحلفائه الأكراد.
لم يبق أمام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، سوى التواصل مع ترامب، والقول إنهما اتفقا على منطقة عازلة بعمق عشرين ميلا على طول الحدود مع سوريا وفي الأراضي التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي بواسطة قوات سوريا الديمقراطية. هذا الكلام رفضته بشدة قوات سوريا الديمقراطية وكذلك روسيا التي قال وزير خارجيتها إن منطقة الحدود يجب أن تكون تحت سيطرة قوات النظام.
كل هذا التنازع لن يوصل إلى شيء، ولن ينال الرئيس التركي من شرقي الفرات أكثر مما ناله من مدينة منبج. فالتفجير الانتحاري في منبج الذي تبناه تنظيم داعش قد يقلب الطاولة على الجميع وسيكون المسؤولون عن بناء السياسة الأميركية بعيدة المدى في المنطقة هم الرابحون، ولا بأس أن يسقط عدد من الجنود الأميركيين، فلن يكون هناك انسحاب من سوريا.
فرغم التواجد الرمزي واللوجستي للقوات الأميركية في سوريا، فإن الولايات المتحدة قادرة على رسم خطوط التدخلات الدولية هناك، وفي بقائها يستطيع واضعو الإستراتيجية الأميركية توظيفا بعيد المدى لكل هذه التدخلات بما يخدم إستراتيجيتهم.