هل نشهد نهاية الطموحات التوسعية التركية في العام 2019؟

مع الانسحاب الأميركي من سوريا تستعد تركيا لكي تملأ الفراغ الذي ستخلفه الولايات المتحدة، وفي ذات الوقت تأمل واشنطن من أنقرة بأن تقوم بدور الشرطي الذي من المفترض به أن يؤدب إيران ويكبح جماحها في سوريا ويستأصل ما تبقى من داعش ويعامل الأكراد بشيء من الإنسانية لا الانتقام. ولكن الأتراك أصحاب الماضي الموغل في الإبادات والتهجير لن يلتزموا بالخطوط الحمراء الصادرة من ساكن البيت الأبيض.
نحن نستذكر تاريخهم العنصري البغيض، نعود إلى مذبحة الأرمن وهي الإبادة الجماعية للشعب المسيحي من أصل أرمني على يد الأتراك سنة 1915، حيث كان هناك ما يقرب من 1.5 مليون أرمني يعيشون في السلطنة التركية، وقضي على نحو مليون إنسان خلال هذه الكارثة.
هذه المجزرة ارتكبتها السلطات التركية في الفترة بين 1915 و1916، وقتلت عددا كبيرا من الأفراد في عمليات إطلاق نار جماعية، ولقي كثيرون حتفهم خلال عمليات الترحيل الواسعة نتيجة للمجاعة والجفاف والتعرض للمخاطر والأمراض، إضافة إلى ذلك تم إبعاد عشرات الآلاف من الأطفال الأرمن قسرًا عن أسرهم.
فضلا عن قصة أهالي المدينة المنورة المروّعة مع جريمة “سفر برلك” وما حدث فيها من تهجير جماعي وقسري، طبّقته الدولة التركية في حق الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، لتخلف خلال خمسة أعوام مدينة منكوبة يسكنها 2000 من العسكر الأتراك وبضعة عشرات من النساء والأطفال إضافة إلى الجرائم التي ارتكبت في حق الإرث العربي بسرقة نفائس المخطوطات والآثار النبوية المقدسة لدى المسلمين ونقلها إلى تركيا.
أما جرائم الأتراك بحق الأكراد فهي قائمة وماثلة للعيان منذ عهد مصطفى كمال أتاتورك حتى العهد الجديد المغلف بعباءة الإخوان المسلمين.
وينتظر المجتمع الدولي إلى اليوم اعتذار تركيا عن هذه الجرائم المرتكبة بحق البشرية، لأنه لم يمنحها الإذن بتجاوز جرائم الماضي ولم تمنحها الشعوب التي ظلمت أو أبيدت صك الغفران، وهي إلى اليوم لم تعتذر للشعوب التي سحقت آدميتها واستعمرت أراضيها ونهبت ثرواتها. أين منظمة المؤتمر الإسلامي، مثلا، من المطالبة بالآثار النبوية المنهوبة من قبل الأتراك؟
بل أين موقف وكالة الطاقة الذرية من التقرير الذي نشرته مجلة العلماء النووية الأميركية في 2012، والذي تحدث عن تسليم واشنطن لتركيا قنابل ذرية ما زالت موجودة في المخازن منذ سنوات الحرب الباردة، وأن بعض هذه القنابل موجود في القواعد العسكرية التركية التي يستفيد حلف شمال الأطلسي من استخدامها مثل قاعدة إنجرليك الواقعة على البحر المتوسط.
اليوم بعد عقود من انتهاء الحرب الباردة ماذا تفعل تركيا بالقنابل الذرية التي استولت عليها أثناء انشغال إدارة جورج بوش الأب بحرب الخليج الثانية؟ هل يحتمل الشرق الأوسط دولتين نوويتين لهما أطماع توسعية وماض طويل من الجرائم بحق الإنسانية؟ وإن استمرت إيران وتركيا بالتسلح النووي فسوف تجد دول الشرق الأوسط نفسها أمام تهديد وجودي لم يسبق له مثيل.
التقارب الروسي التركي الإيراني مؤشر خطر إذا سارت روسيا بتمرير التقنيات النووية إلى تركيا وسعت أنقرة إلى امتلاك صواريخ عابرة من بعض دول الاتحاد السوفييتي السابق، هذه الترسانة التي تمتلكها دولة عضو في حلف الناتو أمر مقلق لأمن وسلامة منطقة الشرق الأوسط.
الأتراك والفرس يجمعهم حب التوسع، ويؤرقهم حلم استعادة الماضي، ولذلك حرص الأتراك منذ سقوط الدولة العثمانية على استمرارهم في زرع عائلات تركية في كافة دول المشرق العربي والمغرب العربي، وتُصرف لهذه العائلات ذات الأصول التركية رواتب ومخصصات إلى يومنا هذا. فالحلم التركي سيتوج في حال أصبحت تركيا دولة نووية، وقد سعى الحزب الحاكم في تركيا بكل ما أوتي من قوة إلى شراء اليورانيوم من دول عديدة وازدهرت مساعيه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وتتخذ تركيا من عضويتها في حلف الناتو غطاء للسعي نحو الهدف النووي، وزاد من تشبثها بهذا الحلم تحالفها مع دولة خليجية توفر لها دعما ماليا غير مسبوق.
الوجود التركي في سوريا سيكون بمثابة صب الوقود على النار المشتعلة إذا لم يُحكم بقواعد صارمة من قبل الولايات المتحدة وروسيا
في ظل الماضي الموغل في العنصرية والإسراف باستخدام العنف وعدم الامتثال للمواثيق الدولية، هل يضمن المجتمع الدولي عدم تهوّر تركيا مجددا واستخدامها للسلاح النووي في حال امتلاكه ضد أي من شعوب العالم الذين لا يتفقون مع أيديولوجية الأتراك؟ هل يأمن الأرمن والأكراد والسوريون واليونانيون من أطماع أنقرة؟
أحدث كمال أتاتورك نقلة نوعية في سعيه لبناء دولة حديثة، ولكن بعد سيطرة حزب العدالة والتنمية، الوجه الآخر لتنظيم الإخوان المسلمين المصنف إرهابيا في معظم دول العالم، عاد النظام السياسي التركي إلى مرحلة ما قبل أتاتورك بنفس العنجهية والعنصرية ضد شعوب العالم، بل تعدّى الأمر إلى أن تنصّب تركيا نفسها بديلا لقيادة العالم الإسلامي عوضا عن حاضنة الحرمين الشريفين، المملكة العربية السعودية، بل دعت إلى تدويل المشاعر المقدسة لدى المسلمين.
فشلت تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لعدة أسباب أهمها ملفات حقوق الإنسان والحريات وغياب الديمقراطية والأعداد الكبيرة للأتراك المنافسين للأيدي العاملة الأوروبية وبأجور تقل من الحد الأدنى للأجور في الاتحاد الأوروبي، ما تسبب في ارتفاع نسب البطالة، كما أن تركيا تنافس بعض دول شرق وجنوب آسيا في تصنيع البضائع المقلدة، وكل هذا يجعلها غير ملتزمة بالمواثيق الدولية واتفاقات التجارة الحرة.
فهل سيقبل العالم تركيا نووية؟ هل تستطيع اليونان أن تواجه تركيا في قبرص إن امتلكت السلاح النووي؟ وهل ستكون إسرائيل بمأمن من دولة قد تهدد أمنها القومي؟ ولا ننسى حلم تركيا في استعادة إقليم الموصل التي ترى أنه حق تاريخي لها.
إن الشرق الأوسط مقبل على كوارث قد تصنعها تركيا وإيران إن استمرت الولايات المتحدة وروسيا في مراهقتهما السياسية متناسيتين أنهما المعنيتان بالسلام العالمي، وفي ظل هرولة تركيا نحو الصين تارة تحت مسمّى إعادة طريق الحرير وتارة أخرى تحت شعار التوازن العالمي، سنرى قريبا تحالفا تركيا روسيا صينيا يهدد المصالح الأميركية في آسيا وربما يقوض ما بنته الولايات المتحدة من تحالفات استراتيجية عبر عقود.
إن الطموح السياسي أمر مشروع وهدف لكل دولة، ولكن من غير المقبول أن نرى نازية جديدة تخلق في الشرق الأوسط الذي لم يتعاف بعد من داعش والقاعدة وأطماع إيران. هل من المنطق أن تزوّد تركيا العائلات ذات الأصول التركية في مصراتة الليبية والتي أصبح لديها ميليشيات مسلحة وتحالفات مع إرهابيين بالسلاح والعتاد العسكري سواء بطريقة مباشرة أو من خلال بعض حلفائها تارة تحت مسمّى العون الإنساني وتارة أخرى عبر بواخر ترفع علم الهلال الأحمر.
إن الرأي العام العالمي لم يعد تنطلي عليه هذه الحيل، ويكفي الشرق الأوسط ما عاناه جراء التنافس بين إيران وتركيا. هذه باسم حماية الإرث الصفوي الشيعي، والأخرى باسم حماية الإرث العثماني السني وكلاهما مدّع ومزيف للحقائق التاريخية، ولم يكتفيا بالتنافس عربيا بل امتد تنافسهما ليصل إلى جنوب وشرق آسيا والمحيط الهادي وأفريقيا الوسطى. هذا يبني مسجدا ويوزع أضاحي العيد وذاك يبني حسينية ويجمع الخمس، وبين هذا وذاك طمست العقول وغابت المفاهيم بين العمائم والطرابيش.
تختتم تركيا عام 2018 باقتصاد متهاو يئن من التراجع وفضيحة ابتزاز سياسية لدولة كبرى وتدخل في شؤون الآخرين، وملف أسود في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية الصحافة، وتدخل عسكري في سوريا.
إن الوجود التركي في سوريا سيكون بمثابة صب الوقود على النار المشتعلة إذا لم يُحكم بقواعد صارمة من قبل الولايات المتحدة وروسيا، وكلنا أمل في أن يكون عام 2019 عاما تنتهي فيه نكبة سوريا وشعبها، لتعود كما كانت خالية من أي وجود إرهابي سواء من إيران أو الفصائل المسلحة باختلاف انتماءاتها، أو تلك الممولة من تركيا، ولكي تنعم سوريا وأهلها بما يستحقون من ديمقراطية وتنمية وسلام.