الصياد والمملكة والطائر الذي راوغ الطلقات

سيعيش الطّائر وسيرتفع عاليا وستغنّي ماجدة وستبقى المحبّة لتدوم بدوامها خيبة الصيّادين في الماء العكر.
الخميس 2019/01/03
ماجدة الرومي أدْفَأت شتاء طنطورة بصوتها

كان جدّي صيّادا شغوفا، لا ينقطع يوما عن صيانة بندقيّته وتفقّد الخراطيش ولا يفوّت موسم صيد واحدا. ورغم مرور عدّة سنوات على ذلك الزّمن. مازلت أذكر كيف كان يتجاهل رجائي له ليفوّت رحلة صيد واحدة ويصطحبني لدكّان المرطّبات سرّا، كي لا تتفطّن والدتي التّي كانت تمنعني من تناولها خوفا على أسناني.

لم يكن جدّي صيّادا فقط، بل كان أيضا موسوعة تاريخيّة وجغرافيّة. يتحدّث أربع لغات ويعرف ما حصل خلال الحرب العالمية الثانية بتفاصيلها كما عايشها. ومن بين الأحداث التّي كان يحلو له سردها على مسمعي هي قصّة الاستعمار الفرنسي لتونس ونوادر البايات والصّراع الوطني لتحقيق الاستقلال وبدايات تأسيس الدّولة، ولكن ومن بين هذه القصص كلّها كانت قصّة الحجّ الأحب إلى قلبه وأقربها إلى روحه حتّى أنّه كان يسهب في حديثه عن السّفر برّا إلى مكّة والمدينة مرورا بعدّة دول عربيّة كليبيا ومصر وفلسطين والأردن وغيرها.

رحل جدّي منذ أكثر من أربع سنوات، وبقيت لي منه قصّة الحجّ ومحبّة لأرض طيّبة كان يصفها لنا على أنّها خير البقاع. وقد يتساءل المتسائل عن ذلك الأمر الذّي أثار هذه الذّكريات ودفعني لأكتب وأنا التي لم تتعود الكتابة عن تفاصيل ذاتيّة. لكلّ متسائل أقول: الذكريات كجبل طويق، لم تكن يوما غبارا كي تثار. هي، رغم سهونا، باقية بقاء النّفس فينا. أمّا عن الكتابة فهي سحب تتلبّد أحيانا لتستفز المستمتعين بغيابها، والمستمتعون، في غياب مثل هذا النصّ، كثر.

هؤلاء الذّين أتمنّى أن يستفزّهم هذا النص يتساءلون منذ أيّام: لم شاركت ماجدة الرّومي في مهرجان شتاء طنطورة في المملكة العربية السعودية؟ وكيف تجرّأت ماجدة وتمنّت أن تبقى المملكة عاصمة للخير ودارا للعزّ؟ وكيف لأهل المملكة أن يسعدوا بمهرجان أو حفل؟

بادئ ذي بدء، قد نعتقد أنّ المنتقدين مجرّد غيورين على الدين وقداسة الأرض حتّى نتفطّن لاحقا أنّهم لا يجدون حرجا في إقامة الحفلات والمهرجانات وحتّى الكؤوس (كؤوس العالم لكرة القدم) في أوطانهم وعلى أرضهم التي قد لا يعتبرونها مقدّسة. والواضح في الأمر أنّ تنظيم المنتقدين يضمّ في صفوفه، وبالصّدفة، كلّ الذّين يؤمنون بالخلط: خلط الدين بالثّقافة وخلط الإسلام بالسياسة وغيرهما من الخلطات العجيبة لغاية في نفس يعقوب.

ورغم كلّ اللّغط على وسائل التّواصل الاجتماعي ورغم كلّ الانتقادات، يبقى لأهل السعودية الحقّ في العيش والفنّ والثّقافة وهو حقّ واستحقاق صار حقيقة بفضل رؤية جديدة، لم تشأ للمملكة أن تبقى خارجة عن سياق التّاريخ الحديث وبعيدة عن فلك الثّقافة بما قد ينجرّ عن ذلك من جمود اجتماعي وحضاري.

أمّا عن الكلمات التي استهلّت بها ماجدة الرّومي حفلها من على فوق مسرح العلا، فهي حتما “جريمة” تشترك فيها الفنّانة مع غيرها من المسلمين والعرب وكلّ الذّين يعتبرون المملكة ركيزة لاستقرار المنطقة وأمنها. وهذا هو غالبا الأمر الذّي استفز مشاعر المنتقدين وأطلق العنان لمساع حثيثة كي يتمّ تجريمنا جميعنا. إذ يبدو أنّ محبّة بلد عربي، بحسب هؤلاء، صارت جريمة لا تغتفر. كما يبدو أيضا أنّ تقدير شعب عربي، كذلك بحسب هؤلاء، صار جناية تستحقّ التهجّم والعقاب.

وأستسمح في هذا السياق الفنانة ماجدة الرومي لأشاركها “الجريمة” وأتمنى ما تمنته لأهل المملكة علّ التمنّي من مشرق أرضنا ومغربها أن يحفظ خير المملكة ويديم عزّها ويجعل سيوفها سيوف نصر ونخيلها مراوح زمن لا تفنى مع الوقت.

ونحن مجرمون فعلا لأنّنا تمنّينا لأهلنا بقاء الخير ودوام العزّ. لكن ما قد يتناساه البعض هو أنّ مثل هذا التمنّي ليس وليد اليوم بل هو دائم ومتواصل. نسمعه اليوم بعد أن كنّا قد سمعناه مرارا على لسان أجدادنا وإبائنا وأمهاتنا وكل الذّين سبقونا.

أنا، عن نفسي، سمعت مثل هذا التمنّي من أمي التي زارت السعودية مرّة واحدة لأداء مناسك العمرة وسمعته أيضا من جدّي الذّي لم يكن يفوّت فرصة للإثناء على أهل المملكة وذكر حسن ضيافتهم وطيب أخلاقهم.

وبالعودة إلى جدي، أذكر نادرة قد جمعتني به وأنا في السادسة من عمري. كان يومها آخر يوم في السنة الدراسية وكنت أنهيتها بتفوّق ولم أكن أعلم وقتها أنّ للتفوّق أعداءه. عدت إلى البيت وعلى وجهي تعابير الخيبة في أسوأ تجلّياتها فسألني “تفوّق أو امتياز أو كلاهما معا؟”. ابتسمت رغما عنّي وقلت “نحن لا نرضى بأقلّ من ذلك”.

 أذكر أنّه وضع يده على رأسي الصغير حينها وقال “لم يعجب ذلك الأتراب. أليس كذلك؟”. فأومأت بنعم وأردف “لم أر صيّادا قطّ يهنّئ طائرا بفوزه في مراوغة الطّلقات أو بنجاته من الإخفاء في قاع الجراب. عاش الطّائر عاليا فوق القمم وخاب أمل الصيّادين في الماء العكر”. وهكذا الأمر، سيعيش الطّائر وسيرتفع عاليا وستغنّي ماجدة وستبقى المحبّة لتدوم بدوامها خيبة الصيّادين في الماء العكر.

13