ما يتحدث به الجسد تلتقطه وسائل الإعلام

لا يجرؤ الكثير من الساسة على الجهر بما يؤمنون به وخاصة تجاه خصومهم.
تصنع السياسة أجواء صراع ومنافسات شرسة بين أقطابها وتتيح لهم أن يتنقلوا بين حبال اللعبة السياسية كل بحسب مهارته.
في وسط ذلك يبقى الإعلام الراصد لمواقف الساسة مندفعا بفضول مهني لا تحده حدود للبحث في العديد من الخفايا والوصول إليها.
حدثان شهدناهما قبل أيام يصبّان في هذا المجرى ويفسّران ما يجهر به الساسة وما لا يجرؤون على الجهر به فتفضحه حركاتهم أو حركات شفاههم. الحدث الأول وقع إبّان الجلسات الصاخبة لمجلس العموم البريطاني بخصوص الاتفاق النهائي للخروج من الاتحاد الأوروبي.
قطبا السجال هما رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي يقابلها خصمها اللدود زعيم حزب العمال المعارض جيرمي كوربين.
خطاب كوربين اللاذع المتكرر وضع المرأة القوية والمدافعة الشرسة عن خطتها المثيرة للجدل للطلاق مع أوروبا، في زاوية حرجة ولا تحسد عليها، فما كان منها إلا أن ردت عليه بلهجة غاضبة وأشعرته بأنه ينطق بهذيانات وأن لا أحد يصدقه من الجالسين وراءه.
هذا الموقف دفع وسائل الإعلام إلى ترقب رد فعل كوربين الذي نجح في امتصاص غضبه، لكنه قال مع نفسه “يا لها من امرأة حمقاء”.
لم ينطق كوربين بتلك الكلمات قط، لكن حركات شفتيه قالتها، وتلقفتها وسائل الإعلام فورا، وتصدر ذلك نشرات الأخبار وتناقلتها الصحافة بل إن إحدى المحطات التلفزيونية جاءت بمترجم متخصص بحركات الصم والبكم وتم تصوير حركات شفاه كوربين بالصورة البطيئة وبلقطات مقربة.
كان ذلك كافيا أن ترد تيريزا ماي الصفعة فألقت خطابا فندت فيه مواقف كوربين ووبخته بشدة عما قاله في حقها بوصفه إهانة للمرأة البريطانية التي تمارس دورها في ويستمنستر منذ مئة عام.
القصة الثانية وقعت مع تيريزا ماي أيضا، وقيل إن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ومن فرط قرفه من قصة البريكست أنه ذم رئيسة الوزراء البريطانية قائلا إنها لعوب أو غامضة أو شيء من ذلك.
هنالك من سمع ذلك التهكم بل الشتيمة ونقلها لتيريزا ماي التي سرعان ما اندفعت غاضبة لملاقاة يونكر ولتسأله هل أنه قال فيها ذلك الكلام. الحوار بين ماي ويونكر كان شخصيا، لكن الكاميرات اتبعت الأسلوب نفسه مع جيرمي كوربين إذ تمت ترجمة حركات شفاه ماي ويونكر وتم استخراج ما قالته وهي في حالة شديدة من الغضب لينكر يونكر أنه شتمها.
الأسبوع الصاخب الذي مرت به ماي والمليء بالصراخ والسجالات الانفعالية وغضب البرلمانيين غير البريكستيين اكتمل مع تتبع حركات جسد وشفاه قطبي الصراع والخلاف.
تيريزا ماي كانت تتبع تكتيكا عندما يضيق عليها الخناق في المناقشات وهجمات البرلمانيين وهي الضحكة الصفراء وإشاحة وجهها بعيدا عن المتحدث ثم الـرد باختصار لتترك المتحدث/ السائل في حيرة من أمره، إذ لن تروي عطش أحد بإجابات كافية وفي كل مرة كانت تختصر كلامها بقولها “تريدون أن تنتهي كل هذه المتاعب، إذن صوتوا للاتفاق”.
حركات ماي خصصت لها إحدى القنوات التلفزيونية البريطانية حلقة كاملة وجلبت متخصصين وقاموا بتحليل ردود أفعالها، فضلا عن ردود أفعال خصومها.
فما الذي تبتغيه وسائل الإعلام من كل هذا؟ ألا تكفيها البيانات والتصريحات والمؤتمرات الصحافية التي يقوم بها الساسة؟
الجواب على ذلك باختصار أن مهمة السياسي في إخفاء ما يعتمل في داخله لم تعد طريقة ناجحة ولا خافية على وسائل الإعلام والعيون الصحافية المفتوحة والراصدة التي تجعل السياسي في وضع لا يحسد عليه وهو يخرج بحركات شفتيه أو جسده ما لا يقال جهارا ليسقط في مطب جديد من مطبات المناكفات والصراعات السياسية التي لا تنتهي.