هل فقدت اللغة وظيفتها في نسج العلاقات

جلّ الحوارات أصبحت صمّاء ليس لفقدان اللغة لألقها وعجز الحروف عن أداء المعنى، ولكن لأن النفوس ضاقت بما يسلط عليها من ضغوط كرستها طبيعة الحياة اليومية المتسارعة وعجز الإنسان في الغالب عن مسايرتها على المستويين النفسي والمادي.
الأحد 2018/12/16
العيش المشترك الدافئ أضحى مطمحا صعب المنال

لا يختلف اثنان حول كمّ الضغوط النفسية المترتبة على التغيير المتسارع جدا في أنماط حياتنا اليومية، والتي تمسّ جميع الأفراد والعائلات والمجتمعات عموما بقطع النظر عن الاختلافات النفسية والذهنية والمادية الموجودة. في كل يوم تقريبا أستعرض شريط الأحداث التي مررت بها، وأكتشف -وكأنني لأول مرّة- أن حجم الضغوط كان كبيرا جدا، وأحمد الله طويلا على قدرة تحملي، وأظنّ أن الجميع رجالا ونساء يعيشون نفس التجربة، وربما أن الاختلاف الوحيد يتمثل في تفاوت النسب.

الوجه الثاني في الموضوع أن كل واحد منا يُمنّي النفس بأن يطرح أثقاله ويتجاوز تأثيرات الضغوط المسلّطة عليه في يومه الحافل بوجوده في منزله وبين أفراد أسرته، وإذا بالأمنية تكاد تكون مستحيلة لوجود خلافات وصراعات واختلافات في وجهات النظر.. وكأن العيش المشترك الدافئ أضحى مطمحا صعب المنال.

لو سئل شخص ما حول إمكانية تجاوز الضغوط النفسية التي يتعرض لها يوميا وحول الأزمنة أو الأمكنة التي تساعد على إنجاز ذلك، فحتما ستكون الإجابة قاطعة: من الصعب في هذا الزمن تجاوز كل الضغوط رغم السعي الحثيث لفعل ذلك.

كانت حياة الأسر بسيطة هادئة يرضى أفرادها بما تيسّر من الإمكانيات المادية، يعيشون في تناغم تام مع أقوالهم وأفعالهم التي تنعكس مباشرة على علاقاتهم العائلية فتتوطد عرى الودّ والمحبة والتكامل والتآزر، يتسامرون ويضحكون متجاوزين إرهاصات مشاغلهم اليومية، لقد حصّنتهم اللحمة العائلية ضد الاكتئاب، فهم لا يفكرون سوى في الأهمّ العاجل لأن حياتهم بسيطة ولا توجد بها تعقيدات تستوجب تخطيطا وتنفيذا.

 أما في أيامنا الراهنة فقد تغير كل شيء، وبفعل التسارع وكثرة المشاغل وضيق الوقت وقلة ذات اليد، ففقدت العلاقات الأسرية والاجتماعية حميميتها ورومانسيتها وحتى أخلاقياتها، فأصبح التفكير في الذات والبحث عن سبل تجاوز الإرهاصات اليومية بضغوطها النفسية المتعاظمة من الأولويات القصوى دون اعتبار للعلاقة التي تجمع الفرد بالمجموعة.

لا يجتمع أفراد العائلة الواحدة إلا نادرا رغم تواجدهم تحت نفس السقف، فكل منهم له اهتماماته الخاصة والتي تتناقض مع الآخرين وبذلك اتسعت الهوة وكبر الشرخ في مستوى العلاقات. وإن صادف واجتمعوا فلا بد من طرح مسائل خلافية ويحتدّ النقاش بشأنها ويتطوّر شيئا فشيئا إلى الوصول إلى مرحلة التصادم الفعلي الذي يقود لاحقا إلى القطيعة النهائية.

تتعطل لغة الحوار الرصين الذي تكون نتائجه إيجابية وفاعلة في رأب الصدع بين الناس، ويصبح الخطاب متشنّجا عنيفا وفي بعض الأحيان متدنيا أخلاقيا. السبب نفسي بالأساس، فالأزواج مثلا وبعد الودّ الذي يجمعهم والمحبّة الفياضة التي تسبق الزواج، يجدون أنفسهم غير قادرين على إدارة حوار بنّاء في ما يخص عائلاتهم وكأن الذي جمعهم سابقا من مشاعر وأحاسيس كان مجرّد وهم زائف، وتتعاظم مشكلاتهم التواصلية وتعجز اللغة في الجمع بينهم فتصبح سفسطة لا معنى لها، ويتباعدون روحيا في البداية ثم يتعاظم الشرخ وتتفكك عرى الروابط التي تجمعهم، وتضيع أحلامهم الوردية.

عدم القدرة على التواصل الإيجابي بين الأزواج تترب عليه مشكلات نفسية عميقة فيحل النفور بينهم بدل الودّ والحبّ وتغدو حياتهم مجرّد فصل من العشرة الاجتماعية التي لا طعم ولا رائحة لها، لا يجمعهم ماديا ونفسيا إلا السقف الذي يظللهم وكأنهم برتبة لاجئين.

هذا الوضع ولا شك ينسحب على بقية أفراد الأسرة التي تصبح كلها أفقية يتساوى فيها الآباء والأمهات والأبناء، وتغيب السلطة المعنوية والمكانة الأبوية وتتقلص رويدا رويدا مساحات اللقاء وتتقلص معها مساحات الحوار وإمكانيات التواصل لحل المشكلات العالقة. وفي هذه الحالة تنحصر العلاقات الأسرية في أبعادها المادية البحتة.

يحدّثني بعض أصدقائي المقربين وألمس لديهم حرقة كبيرة وحسرة على ما آلت إلية العلاقات البشرية، فيقولون إنهم لا يلتقون بأولادهم إلا نادرا وإن الحوار بينهم يكاد يكون معدوما، وإنه لا سلطة لهم عليهم ولا يشاركونهم همومهم وبرامجهم ونشاطاتهم اليومية. ماذا ينتظر الكبار وخاصة في مراحل متقدمة من أعمارهم من أولادهم سوى حرارة اللقاء والاهتمام وجبر الخواطر والدفع الإيجابي نحو حياة مستقرة هادئة؟ الجواب عن ذلك أنهم في أغلب الأحيان يلاقون الجحود والأنانية وحب الذات والاستئثار. ولسائل أن يسأل أيضا: لماذا أصبح التواصل المثمر بين الناس غاية لا تدرك؟

جلّ الحوارات أصبحت صمّاء ليس لفقدان اللغة لألقها وعجز الحروف عن أداء المعنى، ولكن لأن النفوس ضاقت بما يسلط عليها من ضغوط كرستها طبيعة الحياة اليومية المتسارعة وعجز الإنسان في الغالب عن مسايرتها على المستويين النفسي والمادي، وتفشت الظاهرة في كل الفضاءات الاجتماعية حتى اكتسحت الفضاءات المهيأة أصلا لإدارة الحوارات كالمجالس والبرلمانات وبالخصوص المدارس والمعاهد والكليات. الكل يمارس اللامبالاة للهروب إما من المواجهة الصريحة وإما لعدم القدرة على التواصل الإيجابي. وفي هذا كله تدهورت العلاقات التي من المفروض أن تؤثثها العواطف النبيلة وحسن الخطاب والمعاشرة.

21