المطالبة بعودة الرقابة

انتبه بعض الناشرين العرب الطامحين لاستغلال السوق العراقية إلى وجود الكثير من مدعي الكتابة في العراق للنشر مقابل مبالغ كبيرة تدفع لهذه الدور التي تعتمد الخداع.
الأحد 2018/12/09
حكومات آخر همّها الثقافة

يعدّ التخلص من نير الرقابة والممنوعات والتابوهات بالنسبة لأي مثقف، حاجة وضرورة ملحّة من أجل تنسّم هواء الحرية الإبداعية وتناول الموضوعات الإنسانية ضمن مشروعه الإبداعي في أفق مفتوح وضمن مسؤولية ذاتية واعية تتحكم بآلية تجسيده لهذا المشروع.

لقد غبط أغلب المثقفين العرب زملاءهم من العراقيين بعد تخلصهم من وطأة الرقيب المفروض على المصنفات الإبداعية أيّام النظام السابق، على الرغم من أن إلغاء الرقابة على المطبوعات في العراق لم يأت بسبب وعي السلطة الجديدة ما بعد الاحتلال، بل بسبب عدم اهتمامها بالثقافة عموما التي وضعتها في آخر سلّم أولوياتها، فتُرك الحبل على الغارب وأُخضع الأدب على سبيل المثال لقواعد وسلوكيات السوق.

لقد أسقط هذا الإهمال من بين ما أسقط من الرقابة على المستوى الفني للأعمال الأدبية المقدمة للنشر والطباعة. وعلى الرغم من السمعة السيئة للرقيب الثقافي في عهد النظام السابق، إلّا أن طبيعة عمله، وفق التوجه العام للدولة العراقية والنظام الشمولي، كانت تحتّم عليه تنقية الأعمال الأدبية المقدمة من أيّ إساءات قد توجّه لطبيعة النظام القائم آنذاك ورأسه، بينما كانت بقية المحظورات والتابوهات المتعارف عليها في بقية البلدان العربية، مفتوحة أمام الكاتب العراقي.

 لكن حتى في مثل تلك الظروف الملتبسة للعمل الرقابي آنذاك، لم يغفل الرقيب المستوى الفني للعمل ومقدار جودته وأهميته ومدى امتلاكه للشروط الفنية بحدودها الدنيا ليستحقّ النشر، فكان الكاتب، في حال مرور نصه من الرقابة، يشعر كما لو أنّه امتلك هويّة إبداعية وشرعية نقديّة تتيح له الانتماء إلى عالم الأدب الصعب، بالإضافة إلى أن هذا المرور قد يجنبه الاصطدام بالنظام مستقبلا كونه مطبوعة قد مرّت من بين يدي الرقيب، ليس الفني وحسب، بل والسياسي أيضا.

لقد استبشر الجميع خيرا بالتخلص من الرقابة سيئة السمعة كما ذكرت، بعد سقوط النظام السابق وفي أعقاب الاحتلال وما تلاه من حكومات هزيلة، كان آخر همّها الثقافة، فانفتح سوق النشر على مصراعيه من دون حسيب أو رقيب، باسم الحرية الإبداعية، بعد كبت ظاهري في شكله الخارجي، لكنه فني يمثل حائط صدّ يحول دون تسلل الأعمال الهزيلة والهابطة والمليئة بالإساءات والبذاءة، حتى فقد الكثير من الناشرين ومدّعي الأدب والثقافة توازنهم، فأمطروا سوق الكتاب بالمئات، بل بالآلاف من النماذج الهزيلة والمضامين الهابطة، وتأسست وفقا لذلك الكثير من دور النشر الجديدة التي لا تؤمن بالتقاليد ولا تحكمها المسؤولية إزاء الثقافة العراقية وتاريخ الإبداع العراقي وجلّ همّها المكاسب الماليّة وتحقيق أكبر قدر من الأرباح.

واليوم، بعد أن تمكن الناشرون العراقيون المثقفون من ترسيخ وجودهم والإعلان عن مشاريعهم المسؤولة ورصّنوا مطبوعاتهم وفق محكّات رقابية فنية مناسبة واعتمادهم الخبراء في تحديد صلاحية المضامين للنشر من عدمه، انتبه بعض الناشرين العرب الطامحين لاستغلال السوق العراقية إلى وجود الكثير من مدعي الكتابة في العراق للنشر مقابل مبالغ كبيرة تدفع لهذه الدور التي تعتمد الخداع، كما تأسست لهذه الغاية الكثير من دور النشر الوهمية في أوروبا تحت مسمّيات عدة نتيجة لاستشراء هذه الحالة.

وبالنظر إلى التأثيرات المدمّرة لهذه السلوكيات الضارة والمؤذية على الثقافة والإبداع العراقي وعملية النشر في العراق وخطورتها على عمل الناشرين الجادّين، أقترح من هذا المنبر، إعادة الرقيب الفني على المطبوعات وإصدار التعليمات الخاصة بتنظيم عمله واعتماد الخبراء الأكفّاء لتحديد جودة المضمون وصلاحيته للنشر، وإلزام الناشرين بالعمل وفق هذه التعليمات، وعدم السماح بدخول الكتب التي تصدر خارج العراق قبل تحديد صلاحيتها الفنية، على أن يقتصر عمل الرقيب على الجانب الفني المحض.

10