الرسالة الدنيوية

لفت انتباهي وأنا أتابع مسار حياة الكاردينال لافيجري، عبر كتاب “رياح المستقبل” لجوزيف بيريي، أن مؤسس الإرساليات المسيحية بأفريقيا في القرن التاسع عشر، كان مختصا بداية في الآداب، وحصل فيها على الدكتوراه، قبل أن ينتقل لدراسة اللاهوت، كما أنه أمضى سنوات أستاذا بالسوربون، قبل أن يتولى عشرات المناصب الكنسية من مطران الجزائر إلى مبعوث الفاتيكان بأفريقيا، كان أديبا بمعنى ما، مثلما أن بعثاته كان لها وجه دنيوي، حين نظم في تسعينات القرن التاسع عشر أول مؤتمر لمناهضة العبودية في أفريقيا.
نقلتني هذه السيرة لإعادة التفكير في تلك الصلة الجدلية المتراسلة عبر عقود بين الأدب والجوهر الديني، وبين الكتب المقدسة والعمق البشري الذي مثل جسرا لمتواليات من الرؤى الأخلاقية، بحيث لا يمكن النظر إلى الأدب في معزل عن نسغه الديني، ولا الكتب السماوية في انفصال عن كونها أدبيات دنيوية، قد ينطبق عليها ما ينطبق على مجمل التصانيف الروائية والشعرية المختلفة.
أستحضر في هذا السياق أساسا الناقد الكندي نوثروب فراي الذي رسمته الكنيسة قسا لفترة من الزمن؛ لقد انتصرت كشوفاته النقدية والتحليلية بصدد نظرية الأدب على وضعه الكهنوتي، إذ تنقل بين دراسات شكسبير وويليام بليك والتوراة والأناجيل والسرديات المتصلة بها.
كان يرى الأدب بوصفه ذاكرة للمعتقدات الإنسانية، وبتعبيره الأثير بوصفه ذاكرة لأسطوريات متداخلة، تنجز لنا الوظيفة الدنيوية للأدب من حيث هو حامل لرسالة ما، لكن في النهاية ألا يمكن أن نرى في هذا التملص الدائم للأدب من عدم الحسم في الاعتقاد، استعارة لما ينطوي عليه الخطاب الديني ذاته، إذ تبقى الفضيلة والرذيلة ضبابيتين وغير نهائيتين بالمطلق وتعترضهما استثناءات عديدة، كما أن الثواب والعقاب محصلتان غير حتميتان، يمكن أن تنقلبا بسلوك طارئ، في لحظة هاربة من الزمن.
أستعيد في هذا السياق شخصية جوليان سوريل في رواية “الأحمر والأسود” لستاندال، القس الذي عاش حياة صاخبة انتهت به إلى خلع زي الكنيسة، دون أن يفارق جوهر اعتقاده المسيحي، كان الزي الكهنوتي طريقه إلى الارتقاء الاجتماعي ودخول الدوائر المخملية قبل أن يقع في الحب المفضي به إلى الجريمة، لم يكن في العمق إلاّ نموذجا للثنائية التي تستوطن الأفراد، والتي توزعتها الروايات والكتب المقدسة.
لقد مثل جوهر الالتباس والتردد دوما بين ضفتي الاعتقاد تينك اللتين جعلتا يوما الأب أنطوان الصالحاني اليسوعي يختصر زمن خدمة الرب، ليفرد سنوات من عمره لإخراج وتصحيح نص دنيوي من طراز ألف ليلة وليلة ونشره بين قراء العربية منذ ثمانينات القرن التاسع عشر.