جدل التطبيع مع إسرائيل: ممانعات الشعوب ومرونة الحكومات

كلما وطأت قدما مسؤول إسرائيلي أرضا عربية تجدد الحديث عن التطبيع وبدأت الآلة الإعلامية تروّج لسقوط حائط الممانعات رسميا. ومؤخّرا، تزايد الجدل حول هذه القضية بفعل تغيير في التوازنات أثّر على بعض المسلمات وفرض توسيع مساحة التطبيع، بما يتجاوز مصر والأردن، وهما بلدان وقعا اتفاقيات سلام مع إسرائيل، لكن يظل حائط الصد الشعبي قائما.
أثار الكلام الذي أذاعته هيئة البث الإسرائيلية، الاثنين، بشأن عزم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو زيارة السودان وأن ثمة طواقم تعمل على بناء علاقات مع الخرطوم، المزيد من الاجتهادت حول تطور لافت في العلاقات بين إسرائيل ودول عربية أخرى.
لا يعني النفي السوداني الرسمي لزيارة نتنياهو، أن قطار العلاقات سيظل متوقفا مع الخرطوم أو غيرها، فحجم التحولات الحاصلة في البيئة الإقليمية والمصالح التي يمكن إيجادها مع إسرائيل، قد يفرض على البعض القبول بما كان مرفوضا من قبل.
كما أن العقبات والتشابكات التي تلف القضية الفلسطينية، فضلا عن تراجع أولوياتها لدى الكثير من دول المنطقة، ربما تفتح بعض الأبواب أمام إسرائيل، والتي تقدم نفسها على أنها أحد صمامات الأمان في مواجهة إيران.
ترى دوائر إسرائيلية مختلفة أن نتنياهو يحاول التغطية على مشاكله الداخلية، ومنع سقوط حكومته بعد انسحاب وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان منها، عبر الترويج بأنه الوحيد القادر على تحقيق تقدم تاريخي في العلاقات مع دول عربية عدة، وهو ما جعله يوقف استمرار التصعيد على قطاع غزة.
كانت إسرائيل أعلنت أن إدريس ديبي رئيس تشاد يعتزم زيارة تل أبيب، غير أن نجامينا نفت في حينه، ثم قام الرئيس ديبي بزيارة إسرائيل، الأحد، في ظل متغيرات تؤكد أن أمامها فرصة للتمدد على الصعيد الأفريقي، بعد إزالة الحواجز السياسية.
جنت بعض القوى الإقليمية أو ما يسمى بدول الجوار العربي، مثل إيران وتركيا وإثيوبيا وإسرائيل، مكاسب كبيرة من انتشار الصراعات والنزاعات في المنطقة، وفي هذه الأجواء سقطت الكثير من المحرمات السابقة، صراحة أو ضمنيا، من بينها ربط التواصل مع إسرائيل بحل نهائي للقضية الفلسطينية.
كرت السبحة حلقاتها السياسية، بأشكال مختلفة، منذ التسليم بتفوق إسرائيل على جميع الدول العربية، وتوقيع مصر (منفردة) على اتفاقية سلام معها، ثم توقيع السلطة الفلسطينية على اتفاق أوسلو، والأردن على اتفاق وادي عربة، بعد تأييد غالبية الدول العربية فكرة مؤتمر مدريد للتسوية السياسية في أكتوبر 1991.
بذلت إسرائيل جهدا لتطبيع علاقاتها مع الدول العربية (مصر والأردن) التي وقعت اتفاقيات سلام معها، وحققت نجاحا نسبيا على المستوى الرسمي، مكنها من الاحتفاظ بقدر من الحرارة السياسية في لزوم الأعراف والتقاليد الدبلوماسية، وأخفقت في تحقيق اختراق على المستوى الشعبي، وبقي شعار مقاومة التطبيع مرفوعا في عواصم عربية عديدة، في مقدمتها القاهرة وعمّان.
جرت مياه كثيرة في هذا النهر، وظلت مسألة الممانعة الشعبية محتفظة بعافيتها، ولعبت النقابات المهنية دورا في منع القفز على حواجزها السياسية، وكان كل من يتجرأ ويقيم علاقة مع شخصية إسرائيلية أو يذهب لزيارتها يتعرض لعقوبات نقابية.
ساندت التطورات المتلاحقة إسرائيل في الصراعات التي اندلعت بالمنطقة، وأصبحت بعض القوى التي رفعت لواء إنهاء خرافة إسرائيل، مثل إيران وحزب الله وحماس وجماعات إسلامية متباينة، مضطرة للتفاهم معها بشكل غير مباشر، لحل بعض الأزمات.
قامت إيران وحزب الله بتفويض روسيا في الحوار مع إسرائيل لتسوية بعض المشكلات على الساحة السورية، وتعاونت جماعات عنف وتطرف إسلامية معها، وتلقت منها مساعدات متباينة، ودخلت حركة حماس في حوارات، عبر مصر وقطر والأمم المتحدة، بغرض رفع الحصار والتوصل إلى تهدئة ومنع الحرب على غزة.
لم يعد الحديث الصاخب مفيدا في الوقت الراهن، لأن معادلات القوة تتغير سريعا لصالح إسرائيل، ولا يعني الضعف العربي الحالي التسليم باحتلالها لأراض عربية والاستجابة لمطالبها السياسية والاقتصادية والثقافية، فمن المهم التعامل مع الموقف برؤية عملية.
لا تزال هناك ورقة الممانعة الشعبية باقية ومن الممكن توظيفها، حتى يتسنى الحصول على تسوية مناسبة للقضية الفلسطينية، ومن المنتظر لها أن تواجه المزيد من التحديات في المرحلة المقبلة.
يبدو الشارع العربي متجاهلا لما يجري على الساحة الفلسطينية، وغير مكترث بكثير من الخلافات الداخلية، لكن قطاعات كثيرة تصر على رفض التعامل مع إسرائيل، ربما انخفض السقف، لكن النفور مستمر، وهو ما يظهر في المحكات السياسية من وقت لآخر.
مع أن رد الفعل الشعبي لا يعبأ كثيرا بالتطلعات الإسرائيلية حيال الانفتاح على دول عربية، غير أن الوجدان العام يرفض التجاوب، وهو ما تريده الكثير من العواصم العربية، التي اضطرت إلى فتح أبواب سياسية مع تل أبيب تحت وقع أحداث إقليمية قاسية، لاستخدام الممانعة الشعبية كمبرر لعدم الانجراف وراء رغبات أميركية تريد تطوير العلاقات العربية مع إسرائيل.
ظلت القاهرة فترة طويلة ترفض التمادي في التجاوب مع المغريات والضغوط الأميركية والإسرائيلية، بحجة وجود جدار صامد للرفض الشعبي، وكانت تحض النخبة الثقافية في النهار على عقد لقاءات مع شخصيات إسرائيلية، وتعمل بالليل على فضح هؤلاء، في إشارة تؤكد أنها مرتاحة لخطاب الممانعة الثقافي.
أرخى سقوط الكثير من أحجار هذا الجدار بظلاله على الموقف من التطبيع، بما شجع إسرائيل على توظيف الأوضاع لكسر ما يمكن وصفه بالمحرمات، لذلك تريد زيادة العلاقات وتضخيمها رسميا، بصرف النظر عما يمكن تحقيقه من نتائج ملموسة على الأرض، فالمهم أن يشعر الرأي العام بتغيرات سياسية تفضي إلى التأثير على العقل العربي الجمعي.
وتواجه إسرائيل مشكلة عميقة في هذا المجال، تتعلق بأن تعمدها الحديث عن تقدم علاقاتها العربية، يستفز دوائر كثيرة، ويعيد إحياء مشاعر الرفض، ففي مصر بدأت نقابة الصحافيين المعروفة بمواقفها المتشددة من إسرائيل، استعادة العافية لما يسمى باللجنة المصرية لمقاومة التطبيع، ويقوم بعض الأعضاء بجمع توقيعات حاليا لعقد اجتماع في أقرب فرصة.
تجاهلت الحكومة المصرية هذا التحرك، مع أنها تتخذ مواقف صارمة من أي محاولة للتجمع أو التظاهر السياسي، لكن في هذه الحالة وجدتها مناسبة لتوصيل رسالة تشير إلى أن موقفها لم يتغير من التطبيع، ولا تزال تقبله علانية وترفضه سرا، وهي قادرة على ضبط الأمر بما لا ينجرف نحو قضايا ساخنة محلية.
تعتبر بعض الحكومات العربية المحافظة على هذه الورقة أنها تمثل أهمية كبيرة، ومن الصعوبة فقدانها، لأنها السلاح الأخير الذي يمكن اللجوء إليه لفرملة التوجهات السياسية مع إسرائيل وسط الخلل الفاضح في توازنات القوى الإقليمية.