منع الحرب مقدم على جلب السلام في فلسطين

لم يعد المتابعون للقضية الفلسطينية يسمعون كلاما جذابا عن مبادرات لتسويتها، وأصبحوا مشغولين بمتابعة التطورات الرامية إلى عدم وقوع حرب في غزة، والتي تبذل مصر محاولات مضنية لمنع حدوثها حاليا لأن تداعياتها ضد المصالح العربية، وتجني من ورائها جهات إقليمية مكاسب سياسية.
النتائج التي حصلت عليها الولايات المتحدة بشأن مبادرتها المعروفة بـ”صفقة القرن” كانت في معظمها سلبية، ما جعلها تكاد تختفي في خضم تسليط الأضواء على ملفات أخرى. وبدلا من العمل على إدخال تعديلات توفر أرضية لمفاوضات جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فتحت واشنطن الباب لمزيد من الجدل، وكأن فكرتها جاءت لتشغل بها بعض الأطراف وتبعدها عن سيناريو الحرب، دون البحث عن أدوات لتحسين فرص السلام.
إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قذفت بتسريبات متدرجة حول الصفقة ولوازمها قبل أن تعلنها رسميا، وتراجعت عن طرحها أو التفكير في تعديلها، وانكبت على هموم إقليمية لها أولوية أكبر، وتركت الصخب مستمرا بين قوى فلسطينية مختلفة.
أحد تجليات الخلاف بين حركتي فتح وحماس، أن الأولى تتهم الثانية بالضلوع في تنفيذ صفقة القرن عمليا، ولم تعد واشنطن بحاجة إلى إعلانها، لأن بنودها المركزية يتم تطبيقها فعلا، وسط أخذ ورد ومهاترات أصابت الهوامش الباقية في القضية الفلسطينية بشلل تام.
الدخول في منطقة رمادية أشعل تجاذبات سياسية بين قوى فلسطينية متباينة، وفرض على حماس تارة، وحركات منسجمة معها تارة أخرى، تسخين الجبهة العسكرية مع إسرائيل، كي تنفي عن نفسها صفة التواطؤ، ووجدت في التصعيد مع قوات الاحتلال ذريعة للتنصل من الاتهامات الموجهة إليها، مع مراعاة عدم تخطي درجة الغليان لأنه يحرق جزءا من قوتها.
الحكومة الإسرائيلية وجدت أيضا في جبهة غزة متكأ لقبر الحديث عن تسوية سياسية، وتكريس الانقسامات الفلسطينية، وتخفيف الضغوط الداخلية الواقعة على كاهل رئيسها بنيامين نتنياهو، فحديث الحرب يجذب الكثير من القادة الإسرائيليين، ويجعلهم يتسابقون في أيهم أشد تطرفا، بدلا من السباق نحو أيهم أقل تشددا وميلا للسلام.
الصيغة التي بدت ناجحة في استمالة البعض حيال التسوية لم تعد تحظى بالجاذبية السابقة، فبعد مرور نحو ربع قرن على اتفاق أوسلو ومصرع إسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل بعد توقيعه، توارى السلام تقريبا وأضحى خيار الحرب أو التلويح بها أكثر جدوى لدى نخب عديدة في إسرائيل.
التركيز على هذه الصيغة أدى إلى اندلاع أربع حروب كبيرة في هذه البقعة، وفي كل مرة تصبح المفاوضات على وشك تحقيق اختراق تجد من ينسفها على قاعدة الحرب، إلى الدرجة التي أصبح فيها الانشغال بمنع اندلاعها يفوق طي صفحتها وولوج طريق التسوية.
حالة اللا حرب تحولت إلى أداة، والسعي إلى السلام بات وسيلة مؤقتة، وهي حالة ترتاح لها إسرائيل وحماس والسلطة الوطنية بقيادة الرئيس محمود عباس وقوى إقليمية ودولية منخرطة في القضية الفلسطينية، لأنها تجنبها مواجهة معادلة صعبة، تستوجب من كل طرف التضحية ودفع فاتورة سياسية، بصرف النظر عن ثمنها النهائي.
إسرائيل تعتقد أن استمرار سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات وإخفاء قضايا الحدود واللاجئين وحق العودة وتكريس القدس عاصمة لها، من أعظم المكاسب التي كانت تحلم بها، وجميعها تحقّق بموجب الحرب أو اللا حرب، ولا تزال هناك قيادات على يقين أن السلام خسارة استراتيجية لها، ولا توجد عوامل قهرية تجبرها على الدخول فيه، لأن المستحيل بات ممكنا من دون تسوية سياسية مكلفة لإسرائيل.
حماس أيضا حققت مكاسب عن طريق رفع السلاح وليس السلام. استحوذت على قطاع غزة عبر انقلاب عسكري على السلطة الفلسطينية، وتلجأ إلى التلويح به كلما اشتدت عليها الضغوط السياسية، ووجدت في اللا حرب صيغة مناسبة لتكريس حضورها، فلماذا ترضخ لقيود المصالحة مع فتح أو تلجأ إلى القبول صراحة بسلام تعلم جيدا أنه سيفقدها سلاح المقاومة، إحدى أهم الأوراق التي تجلب لها منافع مختلفة.
حركة فتح (ومعها السلطة الفلسطينية حاليا) لا تختلف كثيرا عن إسرائيل أو حماس، تطرب للتلميح بالحرب على غزة، وتجدها وسيلة لإضعاف حماس، وتجنبها الحديث مباشرة عما وصلت إليه القضية الفلسطينية، وترفع عنها حرج الكلام عن الديمقراطية والإصلاحات الداخلية وتحديد مصير القيادة بعد أبي مازن، وحزمة طويلة من الاستحقاقات تتوه وسط صخب الحرب وضجيج وقفها.
الاندفاع نحو الحرب في غزة يمثل هدفا محوريا لدى قوى إقليمية، تحاول تحريض حماس عليها لصرف الأنظار عن قضايا أخرى، وتعد إيران في مقدمة الجهات التي تجد في إشعال جبهة غزة مدخلا لتخفيف الضغوط عليها في جبهة سوريا، لذلك تؤيد بعض القوى الدولية جهود نزع الفتيل الذي يمكن أن يشعلها، لعدم مبارحة طهران خندقها.
في ظل هذه المعطيات الدقيقة، تحول منع الحرب إلى هدف مقدّم على جلب السلام، وتزايدت تحركات مصر للتوصل إلى هدوء (وليس تهدئة طويلة) بين حماس وإسرائيل من باب أنها تعي مغبة الانعكاسات السلبية على القضية الفلسطينية التي فقدت الكثير من بريقها، ووقوع حرب جديدة يأتي على ما تبقى من أخضر ويابس فيها. كما أن القاهرة تدرك أن التلويح بها، كمناورة تحقق أهداف كل طرف، قد يجعلها تنفلت من عقالها وتتحول إلى واقع ملموس يصعب السيطرة عليه، فتوافر العوامل المغذية للحرب يمكن أن يفضي إلى وقوعها، حتى لو اعتقد البعض أنهم قادرون على التحكم في درجة تسخينها أو تبريدها.
الاهتمام بحالة اللا حرب ظهرت ملامحه في خطاب بعض الدوائر المعنية بالقضية الفلسطينية، التي كانت مشغولة بالبحث عن تسوية سياسية مرضية، ما يعكس التردي الذي وصلت إليه الأمور، وانخفاض سقف التوقعات، ولم تعد القوى التقليدية معنية بالسلام بقدر تركيزها على بقاء الأوضاع على ما هي عليه.
كثافة الصراعات في المنطقة من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الحالة القاتمة، وجاء الانشغال بها على حساب القضية الفلسطينية، فالولايات المتحدة تنسحب تدريجيا من الشرق الأوسط، ووجودها ينحصر في قضايا تراها أكثر أهمية.
روسيا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا ومعظم القوى المعنية تاريخيا بعقد صفقة للسلام بين العرب وإسرائيل، لا تتمنى أكثر من الحفاظ على قدر محدود من الهدوء، والارتياح لحالة اللا حرب أضحى صيغة نموذجية للتعامل مع الجانبين، كما أنه لا توجد دواع تستلزم الخروج عنها، طالما أنها طريقة ترتضيها ضمنيا الأطراف الأساسية.
الخروج من هذا المربع يستلزم توافقا وطنيا حول رؤية سياسية شاملة، بعيدة عن الحسابات الحركية والشخصية، فإذا كانت هناك قوى فلسطينية ترتاح لما وصلت إليه الأوضاع الراهنة، فعلى المدى القريب سوف تتلاشى المزايا الرمزية، لأن التطورات الجارية في المنطقة، والتي يعاد ترتيب الكثير من مفاصلها، لن تجعل للقضية الفلسطينية مكانا على طاولة التسوية.