الدروس المستفادة من الإفراج عن القس برانسون

ألقت السلطات التركية في عام 2016 القبض على القس الأميركي أندرو برانسون، الذي كان يشرف على كنيسة إنجيلية في إزمير لأكثر من 20 عاما، بتهم “التجسس وارتكاب جرائم نيابة عن منظمة إرهابية دون أن يكون عضوا فيها”.
ووُجهت إلى برانسون تلك التهم بشكل رسمي بناء على إفادة شاهد مجهول قال لمكتب المدعي العام في إزمير إن برانسون ضالع في أنشطة تهدف إلى دعم مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه أنقرة جماعة إرهابية لطلب حق اللجوء في بلدان أجنبية. وبناء على هذه الشهادة، وجّه المدعي العام تهما لبرانسون تصل عقوبتها للسجن 35 عاما، وأصدرت محكمة إزمير الجنائية مذكرة اعتقال رسمية بحق القس الأميركي الذي كان قيد الاحتجاز وقتها بالفعل.
ومثل برانسون أمام هيئة المحكمة ثلاث مرات، أولها كانت بعد مرور 18 شهرا من إلقاء القبض عليه. وفي تلك الجلسة التي عقدت بتاريخ 18 مايو، رفض القاضي الاستماع إلى شهادة الشهود التي طلب القس استدعاءها. لكنه وافق على الاستماع إليهم خلال الجلسة الثانية في 13 يوليو، ثم قام بتأجيل الحكم حتى جلسة 12 أكتوبر.
وفي الجلسة الأخيرة، تراجع شهود الادعاء عن شهادتهم وقالوا إنه أسيء فهمهم في الجلسة الفائتة، وإنهم ليسوا على يقين من أن القس قد ارتكب الجرائم التي كانوا قد ذكروها في شهادتهم السابقة.
ورغم ذلك، حُكم على برانسون بالسجن ثلاث سنوات وخمسة وأربعين يوما، وأمرت المحكمة بإطلاق سراحه على اعتبار أنه قضى مدة العقوبة بالفعل على ذمة القضية، ليتمكن برانسون أخيرا من العودة لوطنه.
وكانت لهذه القضية تأثيرات سلبية جسيمة على العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، خاصة وأن كلا من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونائبه مايك بنس هما من أتباع الكنيسة الإنجيلية المخلصَين.
وقال بنس في شهر يوليو الماضي إن تركيا ستواجه عواقب وخيمة إذا لم تطلق سراح برانسون. وفرضت بالفعل وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على اثنين من وزراء الحكومة التركية بناء على الاعتقاد بأنهما مسؤولان عن اعتقال القس.
ويمكن هنا استخلاص استنتاجين من قضية برانسون: الاستنتاج الأول يدور حول رؤية مفعمة بالتفاؤل إزاء مستقبل العلاقات التركية الأميركية التي يحيط بها الكثير من المشاكل المعقّدة، من بينها مسألة تسليم رجل الدين التركي فتح الله غولن الذي يعيش في الولايات المتحدة والإفراج عن أكثر من اثني عشر مواطنا أميركيا آخرين وموظفا تركيا يعملون في السفارة الأميركية وتحتجزهم السلطات التركية حاليا.
وكذلك وعد الولايات المتحدة بسحب مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية من منبج إلى الشرق من نهر الفرات، ومعارضة واشنطن لشراء تركيا نظام الدفاع الجوي الروسي (إس- 400)، وقرار الكونغرس الأميركي منع تسليم الطائرات المقاتلة من طراز (إف- 35) إلى تركيا، إضافة إلى الغرامة الضخمة التي قد تفرض على بنك خلق التركي لمشاركته في التحايل على العقوبات الأميركية المفروضة على إيران، والتي قد تتسبب في المزيد من الضرر للاقتصاد التركي المتعثر، وملف تسليم نائب مدير البنك الذي يقضي حاليا عقوبة السجن في الولايات المتحدة.
وقد ساعد إطلاق سراح القس على شطب واحدة من قائمة المسائل الخلافية التي أضرّت بالعلاقات بين واشنطن وأنقرة في الشهور القليلة الماضية، وإذا أمكن الحفاظ على الزخم الذي بدأ بحلّ هذه المشكلة، فقد يمهد ذلك الطريق لحلّ مسائل خلافية أخرى، ولكن بشرط أن يظهر الطرفان التزاما قويا تجاه العمل على حل هذه المشاكل.
لكن في الوقت الحالي، لا تبدو الأمور مبشّرة بالنسبة لتحسن العلاقات، وذلك لأن القس، بمجرد عودته إلى أرض الوطن وبعد التأكيد أكثر من مرة أنه لا يزال يحب تركيا، تحدث إلى وسائل الإعلام الأميركية عن حجم المعاناة التي مر بها في السجون التركية.
وبطبيعة الحال، ستثير تصريحات برانسون الكثير من المشاعر الغاضبة المناهضة لتركيا، خاصة في الدوائر الإنجيلية.
على الجانب الآخر، هناك العديد من الأسئلة التي بقيت دون إجابة: لماذا احتجز القس برانسون طوال هذه الفترة في السجن؟ وإذا كان مذنبا، لماذا أطلق سراحه؟ وكيف حدث أن يقضي شخص مدان بتهم التجسس ومساعدة منظمة إرهابية 19 شهرا فقط في السجن في حين تصل عقوبة هذه الاتهامات إلى السجن 35 عاما؟
كل هذه الأسئلة ما كانت ستكون مطروحة إذا كان القضاء التركي “المستقل والمحايد” قادرا على إيجاد طريقة لإطلاق سراح القس تشبه تلك التي استخدمها في شهر فبراير من هذا العام لإطلاق سراح الصحافي الألماني من أصل تركي دينيز يوجيل، ولم تكن أنقرة وواشنطن لتتسببا في الأضرار التي لحقت بالاقتصاد التركي من جهة، وبالعلاقات التركية الأميركية من جهة أخرى.