دور مجتمعي للجيش في مصر: مساعدة الفقراء

زيادة الحراك الإنساني تؤجل الصدام بين المؤسستين الأمنيتين والشارع وقيام المؤسسات الأمنية بدور مجتمعي يشكل إحدى أدوات الحكومة لتعويض الناس عن خنق المنظمات الأهلية.
السبت 2018/10/20
مواجهة الفقراء قنبلة موقوتة 

تملك المؤسسة العسكرية في مصر حضورا يتجاوز الأدوار التقليدية للجيش، حيث عملت على بناء إمبراطورية اقتصادية ضخمة، تنقسم حولها الآراء، فهناك من يرى أنها نجحت في سد ثغرات السوق وحل أزمات كبرى، مثل طرح سلع بأسعار منخفضة، فيما ينتقدها آخرون ويعتبرون أنها تكسب الجيش نفوذا كبيرا يتسبب في تهميش المؤسسات المدنية، ويجعل منه “دولة ذات مجتمع مغلق على أفراده”.

القاهرة – يقف محمد منصور ذو اللحية الطويلة ضمن صف طويل من الرجال والنساء، أمام أحد منافذ بيع السلع التابعة لجهاز الشرطة بمنطقة الإسعاف، في وسط القاهرة، ينتظر دوره لشراء اللحوم الطازجة بأسعار منخفضة عن مثيلاتها في باقي المتاجر، وبعد دقائق وصل إلى الأمني الذي يرتدي زيّا مدنيّا ويمسك السكين بشكل احترافي، وحصل منه على السلعة.

يأتي محمد كل ثلاثة أيام تقريبا لنفس المكان لشراء كيلوغرام واحد من اللحم يكفيه وزوجته وابنتيه، ويتذكر أول مرة جاء فيها إلى المنفذ قبل ستة أشهر، أنه كان يخشى التعامل معه برعونة بسبب لحيته الطويلة، وشعور أفراد الأمن بأنه تابع لتيار إسلامي متشدد، لكنه حصل على السلعة بسهولة مثل باقي المواطنين دون تمييز.

ويقر الرجل الخمسيني في حديثه مع “العرب” من أمام المنفذ، أنه كان ضمن فئات المجتمع الساخطة على اتجاه الجيش والشرطة لبيع السلع في الشوارع والميادين، وكثيرا ما كان يمتعض من “بيزنس” الجهات الأمنية بامتلاك مصانع ومزارع وشركات أغذية لخدمة أفرادها فقط، لكنه عدّل من وجهة نظره جراء شعوره بالدور المجتمعي الواسع لها.

ويثق أكثر المواطنين في منتجات وسلع الجيش والشرطة، لاعتبار أنها أكثر أمانا وطازجة وجاءت من مزارع ومصانع ذات إدارة أمنية لا تقبل الأخطاء بما لا يتسبب في اهتزاز صورة المؤسسة. ويحمل الزحام على الشراء بعدا يرتبط بعدم التلاعب في الأسعار، لأن هناك تسعيرة جبرية على كل سلعة، بالمخالفة مع أبجديات السوق الحرة التي تنتهجها الحكومة.

خدمة البسطاء

ينتمي محمد إلى التيار السلفي الذي لا تكلّ الحكومة من تضييق الخناق على عناصره كخطوة نحو تفكيك بؤر التطرف في مصر، لكنه يرى في الدور المجتمعي للجيش والشرطة، خطوة مهمة نحو تحسين العلاقة مع الشارع، وتراجع شعور الناس بأن أجهزة الأمن مجرد مؤسسات لحماية النظام والدفاع عن قراراته وسياساته فقط.

وتحمل كلمات الرجل ما يمكن اعتباره تلخيصا لدوافع المؤسستين العسكرية والشرطية في مصر للتوسع في القيام بدور مجتمعي، عبر تقديم خدمات وسلع عدّة للمدنيين بأسعار منخفضة، للتخفيف عن كاهلهم، كما أن الشواهد تعكس عدم تصنيف الناس وفق الانتماءات السياسية والدينية، وعدم تصنيفهم إلى مدنيين وعسكريين، في خطوة تأخذ طابعا تصالحيا جديدا مع الجميع.

ولدى الكثير من المواطنين في مصر شعور راسخ بأن المؤسسات الأمنية موجودة لحماية مؤسسات النظام وفرض الاستقرار بالقوة، ما خلق فجوة واسعة في العلاقة مع الشارع، وهي الحالة التي رأت الحكومة أن استمرارها يشكل خطورة في المستقبل، وأن التوجه نحو تعظيم الدور المجتمعي للجيش والشرطة من شأنه تخفيف الاحتقان بتقديم المساعدات.

مؤسستا الجيش والشرطة أدركتا خطورة استمرار شعور المجتمع بأنهما مؤسستان منعزلتان

ويعتقد بعض المراقبين أن الأمر يحمل في ثناياه نوعا من رد الجميل للشارع الذي ساند الجيش والشرطة في التخلص من نظام حكم جماعة الإخوان المسلمين، خلال أحداث 30 يونيو 2013، لأنهما لم يكونا لينجحا في مهمة الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، دون مساندة مجتمعية تضفي شرعية شعبية على إسقاطه، ويجنبهما قدرا من الحرج المحلي والدولي.

ويضاف إلى ذلك، أن الحكومة تريد اتخاذ خطوات يكون لها مردود إيجابي في الشارع لخفض نبرة الغضب من مشروعات المؤسسات الأمنية، لا سيما الجيش، ورأت أن الأمر لن يتحقق دون شعور الناس بأن شرعنة الاقتصاد الأمني تتطلب حصول المواطنين على جزء منه بشكل يذيب الإحساس بالفوارق الاجتماعية بين العسكريين والمدنيين.

وبهذه الخطوة، وفق اعتقاد الحكومة، يتم ضرب أكثر من هدف في آن واحد؛ الأول إسكات المعارضين للنفوذ الرأسمالي للجيش والشرطة، وإحراجهم بأن امتلاك مزارع ومصانع ومستشفيات يحمل فائدة للمجتمع تكاد تكون متوازية مع المنافع العائدة على رجال المؤسستين الأمنيتين، والثاني تقوية العلاقة مع الشارع، خاصة البسطاء عبر تقديم مساعدات وخدمات بأسعار تنافسية، وأحيانا مجانية، مثل الحاصل بمستشفيات عسكرية وشرطية، لخلق حالة من الترابط والتلاحم والتكافل.

ويتنوع الدور المجتمعي للجيش والشرطة بين بيع مستلزمات مدرسية وخضروات وفاكهة وسلع أخرى، حتى أن وزارة الداخلية أطلقت مؤخرا مبادرة بعنوان “كلنا واحد”، وتكفلت بدفع المصروفات المدرسية لبعض أبناء الأسر البسيطة، وتسيير قوافل طبية مجانية، فضلا عن توفير فرص عمل لبعض الشباب المفرج عنهم من السجون. وتقوم وزارة الداخلية بتقديم خدمات الأحوال المدنية المختلفة عبر قوافل تذهب للمواطنين في مقار سكنهم، لخدمة كبار السن وسكان المناطق النائية بالمحافظات والأقاليم المختلفة، بعد أن كان الروتين الحكومي وانتشار الفساد داخل العديد من قطاعات الأحوال المدنية سببا مباشرا في تهرب المواطنين من الذهاب إليها.

ويقول العميد إيهاب يوسف رئيس جمعية “الشرطة والشعب”، في حديثه مع “العرب”، إن الهدف من هذه التحركات يكمن بشكل أساسي في تحسين الصورة الذهنية السلبية لدى أجهزة الأمن في أذهان الملايين من المواطنين، ومحاولة التخفيف من حدة تأثيرات المعلومات التي تثار ضد الأجهزة الأمنية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بجانب تقديم وجه آخر لضابط الشرطة بعيدا عن أقسام الشرطة التي تشهد بعض التجاوزات.

ويحمل التقارب الشرطي والعسكري مع الشارع دلالات توحي بأن النظام يدرك صعوبة إخضاع الشارع للقبول بالأوضاع الاقتصادية بسياسة الترهيب، ومضاعفة انخراط الجيش والشرطة وسط الناس والتعامل معهم بحس إنساني، إحدى أدوات القوة الناعمة لعبور المرحلة دون توترات مجتمعية تؤثر سلبا على الاستقرار السياسي والأمني.

سباق بين الجيش والشرطة

ظل خطر الإرهاب في أعقاب نهاية حكم الإخوان ورغبة الحكومات التي تتابعت بعد تلك الفترة في إحكام قبضتها على مجمل الأوضاع الداخلية، يشكل هاجسا استدعى استخدام سياسة الترهيب باعتبارها السبيل الأسهل لتطبيق نظرية الردع الأمني، وهو ما أبقى صورة الأمن في الأذهان كما هي من دون تغيير.

ويبدو المشهد كأن هناك حالة من السباق بين الجيش والشرطة للقيام بدور مجتمعي فاعل وكسب ود الشارع، فمثلا، عندما قامت مستشفيات القوات المسلحة بفتح أبوابها أمام الجمهور في أيام محددة بشكل مجاني واستقطاب أطباء عالميين لإجراء فحوصات نادرة دون مقابل، سارعت مستشفيات الشرطة للقيام بذات الدور، ولكن طوال أيام الأسبوع.

شعب عاطفي بالفطرة ويمكن أن تشتري وده بأشياء بسيطة
شعب عاطفي بالفطرة ويمكن أن تشتري وده بأشياء بسيطة

وكان دخول بعض المستشفيات الشرطية والعسكرية حتى وقت قريب، مقتصرا على أبناء المؤسستين من الضباط وصف الضباط والمجندين وأسرهم، ما يعكس التحول الجذري في طبيعة العلاقة التي يرغبان فيها مع المواطنين، بحيث تختفي النظرة السلبية من جانب المجتمع لتعامل الحكومة بخصوصية مع عناصر الجهاز الأمني.

وبلغت مساعي التقارب بين المدنيين والعسكريين حد إنشاء أكثر الوحدات السكنية المدعومة لأبناء البسطاء في مناطق مجاورة لمدن ضباط الجيش، مثال ذلك، أن مشروع “دار مصر” الموجه إلى محدودي الدخل في مدينة الشروق شرق القاهرة، يكاد يكون ملاصقا لمنطقة سكن الضباط هناك.

وبحسب دراسة أعدتها دورية “بدائل” وأشرفت عليها الدكتورة إيمان رجب الخبيرة في الأمن الإقليمي بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، فإن هناك جملة من المحفزات التي تدفع المؤسسات العسكرية باتجاه لعب أدوار مجتمعية، مثل مواجهة الفقـر والمرض والفساد، وأن تلك المحفزات واضحة في بلدان العالم الثالث نتيجة تعلق آمال شعوبها على القادة السياسيين لتحقيق التنمية.

ويحمل هذا التوجه دلالات تشي بأن “مؤسستي الجيش والشرطة أدركتا خطورة استمرار شعور المجتمع بأنهما مؤسستان منعزلتان عن الشارع، تتمتعان بامتيازات مالية وطبية وخدمية وسكنية بخلاف باقي الفئات مقابل قيامهما بحماية قرارات وسياسات النظام لا سيما الاقتصادية منها”، وتحتاج خلخلة هذا الشعور إلى مبادرات نوعية لمشاركة المدنيين في امتيازاتهم والاستفادة من نفوذهم المالي والاقتصادي.

وتقول نادية رزق، وهي معلمة، لـ”العرب” “لا أشتري احتياجات منزلي إلا من منافذ الجيش والشرطة، ويبدو أنهما يريدان توصيل رسالة للناس بأن الأمن الذي يحمي القرارات الصعبة من غضب البسطاء، يشعر أيضا بمعاناتهم جراء الغلاء، وهو توجه إيجابي يغير النظرة السلبية عن المؤسسات الأمنية في مصر، وأنها توازن في علاقتها بين الحكومة والشارع″.

وما يلفت نظر نادية، أن أكثر منافذ البيع التابعة للجيش والشرطة، تختار أفراد أمن لديهم قبول مجتمعي للتعامل مع الجمهور، لأنهم مطيعون، ولا يفرضون كلمتهم على الناس، ويتعاملون بود واحترام، ولا تشعر بأنهم ذات خلفيات أمنية، فمثلا، يتركون للمشتري حرية الانتقاء من السلع لاختيار الأنسب منها دون تدخل أو تعنيف مثلما يحصل من بعض الباعة المدنيين، ما ساعد على إقامة صداقات وعلاقات إنسانية بين المجتمع والقائمين على منافذ البيع من العسكريين والأمنيين.

وتضيف لـ”العرب” “أعتقد أنهم يفكرون بمنطق كلما زاد الحراك الإنساني والاجتماعي للمؤسسات الأمنية تجاه الشارع، فإن الصدام بين الطرفين يتراجع.. عن نفسي يكفيني أن أشعر بأنني أصبحت أحصل على مكاسب مثل التي يتحصل عليها العسكري والشرطي وأساهم في ملكية المستشفيات والمزارع والمصانع والشركات، وتلاشى داخلي الإحساس بأنهم فئات تعيش في جزر منعزلة عن معاناة الناس، نحن شعب عاطفي بالفطرة ويمكن أن تشتري وده بأشياء بسيطة مثل المساعدات”.

المؤسسات الأمنية المصرية تحاول جراء هذا الحضور تخفيف حدة الاضطرابات المجتمعية التي قد تحدث نتيجة الزيادات المتتالية في الأسعار وتنامي حالات العنف

ويعيش حوالي نصف الشعب المصري تحت خط الفقر، وهؤلاء يمثلون قاعدة شعبية هامة شاركت في الانتخابات على أمل الخروج من دائرة الجوع الذي حاصرها لسنوات طويلة، وتدرك الحكومة أن مهمة احتواء غضب هذه الطبقة تشكل تهديدا حقيقيا لها، والمواجهة الأمنية معهم قد تكون خاسرة، لأنهم بلا قائد ولا يملكون شيئا يخسرونه، والتلاعب معهم في لقمة العيش مواجهة محفوفة بالمخاطر.

ويؤكد النفور المتصاعد للبسطاء أن الحكومة أخفقت في إدارة العلاقة معهم، ما دفع الجيش والشرطة للقيام بالمهمة من خلال المساعدة في موجة الغلاء وتحسين الأحوال المعيشية، وتعويض غياب دور مؤسسات المجتمع المدني الذي بدأ يتلاشى وجوده جراء التضييق الحكومي، والتعامل مع أكثرها باعتبارها تقوم بأدوار مشبوهة ذات مآرب سياسية، وبعضها يحمل طابعا دينيا.

ويؤكد متابعون أن قيام المؤسسات الأمنية بدور مجتمعي، إحدى أدوات الحكومة المصرية لتعويض الناس عن خنق المنظمات الأهلية.

ويرى العميد محمد يوسف أن هذه الأدوار تساهم في توصيل رسائل عدة مفادها أن المؤسسات الأمنية تتضامن وتتكاتف مع الأزمات التي يواجهها المواطنون وتؤمن بها، وتحاول العمل على حلها، بجانب زيادة الجانب التوعوي تحديدا للأجيال الصغيرة لترسيخ صورة مغايرة عما يصورها لها المجتمع المحيط بها.

ويلفت البعض من خبراء علم الاجتماع السياسي إلى أن المؤسسات الأمنية المصرية تحاول جراء هذا الحضور تخفيف حدة الاضطرابات المجتمعية التي قد تحدث نتيجة الزيادات المتتالية في الأسعار وتنامي حالات العنف، والتي كان من ضمن أسبابها انشغالها بمكافحة الإرهاب على حساب ضبط الأمن الداخلي، وبالتالي فإنها تحاول تعويض هذا القصور من خلال الارتقاء بالجوانب الخدمية.

وتحمل المساعدات العسكرية والشرطية أبعادا ذات دلالات نفسية، تضاف للقيمة المجتمعية والإنسانية لها، لأن هناك أطرافا مناوئة للحكومة تعمل على شحن الناس واستثمار حالة الإحباط، والنبش دائما في امتيازات المؤسسات الأمنية، بحكم الخلفية العسكرية للرئيس عبدالفتاح السيسي، والحديث عن اهتمامه المتزايد بالجيش والشرطة، برفع رواتب ومعاشات الضباط مقابل زيادة الأعباء عن باقي فئات المجتمع.

ويؤكد فتحي قناوي أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، أن تكثيف التواجد في المناطق الفقيرة ذات المستويات التعليمية المنخفضة يأتي بنتائج إيجابية على مستوى تحسين الصورة الذهنية، غير أنه لا يحقق نفس النتائج في المناطق الحضرية وفي الأوساط الثقافية التي تدرك أنها تحركات شكلية لم تغير من جوهر الأداء الأمني الذي يعاني نفس مشكلات الماضي.

ويضيف في تصريحات لـ”العرب” أن ضمان نجاح هذه المبادرات المجتمعية يرتبط بأمرين؛ الأول، من خلال التعامل بشفافية مع حوادث الخروج عن القانون التي يرتكبها أفراد الأمن، والثاني، استخدام وسائل علمية ونفسية سلمية لضمان وصول الرسائل التي تهدف إليها، وقياس نتائجها للتعرف على مدى تقبل المجتمع لهذه الخدمات من عدمه.

20