الإستراتيجية المصرية ضد الإرهاب تركز على "ولاية الصعيد"

القاهرة - أسفرت مواجهة وقعت خلال منتصف الشهر الجاري بين قوات الأمن ومجموعة مسلحة كامنة في كهف جبلي بالطريق الواصل بين محافظتي أسيوط وسوهاج (جنوب مصر)، عن مقتل تسعة من العناصر الإرهابية، ما يؤكد أن الدائرة بدأت تضيق على الإرهابي عمرو سعد، الذي نصب أميرا لداعش في جنوب مصر.
يمثل سقوط هذه الخلية، وهي الرابعة ضمن عشر خلايا أسسها عمرو سعد في بؤر مختلفة بصعيد مصر، نقطة مهمة للأجهزة الأمنية، لأنها حصلت بموجبها على وثائق وخرائط تساعدها في مواصلة جهودها لملاحقة بقايا التنظيم.
وتم خلال العامين الماضيين ضبط إحدى خلايا تنظيم عمرو سعد داخل كهف جبلي بين أسيوط وقنا (جنوب مصر)، والقضاء على عناصر الخلية الثانية في طريق سوهاج- القصير، والثالثة تم القضاء عليها بين بني سويف والمنيا، ثم الرابعة التي وقعت مؤخرا بالصحراء الشرقية لأسيوط – سوهاج الصحراوي الغربي.
تدل هذه التطورات على أن خلايا التنظيم موزعة وكامنة بسلاحها وعتادها بمناطق الظهير الصحراوي لمحافظات الصعيد، والتي تتميز بالوعورة الشديدة وصعوبة المطاردات والملاحقات الأمنية.
في كل مواجهة مع إحدى خلايا الإرهابي سعد تتشابه سيناريوهات المعركة تقريبا، فمكان التمركز هو أحد المخابئ بالطرق الوعرة الواصلة بمحافظات الصعيد، والخلية لا يتعدى عدد عناصرها عشرة أفراد، وبنفس درجة التسليح وسبل الإعاشة والاستعداد للمواجهة أو الانتحار باستخدام أحزمة ناسفة، والحرص على عدم الوقوع في قبضة الشرطة.
لم يكن عمرو سعد عباس، الذي صار يُعرف في أوساط التنظيمات الإرهابية بالأمير عمرو الشويخي، المولود في 18 نوفمبر عام 1985 بقرية الأشراف البحرية بمحافظة قنا (جنوب مصر)، والحاصل على دبلوم فني صناعي، يملك نشاطا قويا يدفع الأجهزة الأمنية إلى تصنيفه ضمن العناصر المتطرفة الخطيرة والمهددة للأمن، وعُرف بين أهل القرية بتشدده وميله إلى العزلة، ثم أقام زاوية للصلاة بمنطقة جبلية بقريته ينشر فيها الفكر المتطرف.
يعدّ سعد من أشرس إرهابيي داعش وأكثرهم إجادة للتخطيط والمراوغة وقد لمعت “نجوميته” في التنظيمات الجهادية بعد اندحار جماعة الإخوان
حدث التحول بعد ثورة 25 يناير عام 2011، عندما لوحظ نشاطه مع الجماعة الإسلامية ثم بعدها مع جماعة الإخوان، وصار أحد العناصر الرئيسية المسؤولة عن تحريك المظاهرات والإشراف عليها في قنا.
بعد عزل نظام الإخوان عن السلطة في 3 يوليو 2013، صار لعمرو شأن آخر، وتحول سائق “الميكروباص” ذو الدخل المتوسط إلى صاحب مول تجاري كبير بمدينته وأداره من خلال عائلته، وتحولت زاوية الصلاة الصغيرة إلى مركز للتدريبات العسكرية بصحراء محافظة قنا، وبات بعد أربع سنوات المطلوب رقم واحد للأجهزة الأمنية.
وجرى نشر صوره في الأماكن العامة، ورصدت مكافأة قيمتها نصف مليون جنيه (حوالي 30 ألف دولار) لمن يدلي بمعلومات عنه، عندما تبين أنه المخطط والمسؤول الأول عن تفجيرات الكنيسة البطرسية بالعباسية عام 2016، وكنيسة مارجرجس بطنطا ومارمرقس بالإسكندرية عام 2017 وغيرهما من عمليات العنف التي استهدفت الأقباط.
مع زيادة وتيرة العمليات الإرهابية في الصحراء الغربية، مقابل تراجعها في سيناء، باتت مصر تواجه رأسين من مدبري الإرهاب؛ الأول هشام عشماوي مؤسس تنظيم “المرابطون” في ليبيا التابع للقاعدة، والثاني عمرو سعد مؤسس تنظيم “ولاية الصعيد” التابع لداعش.
جاء مصدر خطورة سعد من أنه القائد المؤسس لتنظيم “ولاية الصعيد” الذي تضع بعض الأطراف في الداخل والخارج آمالها عليه حاليا، لإبقاء جذوة الإرهاب مشتعلة انطلاقا من محافظات الصعيد، بعد الضربات الأمنية المتلاحقة التي تلقاها التنظيم في سيناء.
ومعروف أنه المحرك لخلايا تفجيرات الكنائس العنقودية، وهو من أحيا هذا النوع من النشاط في الصعيد بعد حقبة التسعينات حينما كان يرتكز نشاط الجماعة الإسلامية المصرية هناك على الأقباط وممتلكاتهم ودور عبادتهم.
يكمن الفرق بين سعد وعشماوي في قدرات كل منهما الشخصية، وقد تبنى الأول تنفيذ الهجمات المباغتة عن طريق العمليات الانتحارية ضد الأهداف المدنية المتعلقة بالأقباط، وبرع الثاني في استهداف قوات الجيش وتمركزاته وكمائنه المتحركة والثابتة في شمال سيناء أو في الصحراء الغربية، استنادا لخبراته القتالية التي اكتسبها من فترة خدمته بسلاح الصاعقة قبل فصله، ولاعتقاده أن استنزاف الأجهزة الأمنية هو الأسلوب الأمثل لخلخلة أركان النظام في مصر.
عمرو سعد كان المسؤول الأول عن مختلف الأدوار، بداية من التدريب وتوفير سبل الإعاشة وتكليف عناصر الرصد والمعلومات
عوض سعد ضعف قدراته القتالية وعدم امتلاك مهارات الاشتباك وانعدام خبرة المعارك الميدانية ضد أهداف عسكرية بتنفيذ عمليات مباغتة ودموية ضد المدنيين، وأكثرها وحشية الهجوم بالرصاص العشوائي باستخدام ثلاث عربات دفع رباعي في 26 مايو 2017 على الطريق الصحراوي الغربي، الذي استهدف عشرات الأقباط ممن كانوا يستقلون حافلة في طريقهم إلى دير الأنبا صموئيل بمحافظة المنيا، وقتل 29 قبطيا.
في حين يعتقد عشماوي، وفق منهجية القاعدة، ضرورة تحييد المدنيين وعدم حرمان تنظيمه من دعم السكان المحليين.
ويرى عمرو سعد، وفق منهجية داعش، أن السبيل لخلخلة النظام هو إضعاف المجتمع عبر خلق بيئة طائفية متصارعة، تسهم في إكساب التنظيم الطائفي نفوذا وحضورا على الأرض، وتحريض الأقليات الدينية على حمل السلاح والقتال دفاعا عن نفسها بعد إفقادها الثقة في الدولة.
انعكس ذلك على منهج كليهما في الاستقطاب والإقناع الفكري؛ ففي حالة سعد حرص على كونه قائدا ميدانيا وقائما على عملية الاستقطاب والتجنيد التي تم اختزالها في قتال المسيحيين بصفتهم من “الكفار” وليسوا أهل ذمة، بينما يرى عشماوي أن تكون للتنظيم مرجعية فقهية ممثلة في الإرهابي عمر رفاعي سرور، نجل المنظر القطبي رفاعي سرور، ليتصدر الجدل بشأن الإشكاليات الفقهية التي تنتصر لفكر القاعدة في ملفات الحاكمية وتكفير الجيش والشرطة لأنهما من أعوان الحاكم.
بعكس خلايا ما يسمى بـ”ولاية الصعيد” التي انحصرت دائرة استقطابها في محيط العائلات والأقارب والأصهار، أتاحت منهجية القاعدة لتنظيم “المرابطون” التنسيق مع العديد من التنظيمات داخل مصر ودول الجوار ومكنته من توسيع دائرة الاستقطاب وحظي بالنصيب الأكبر من الدعم والرعاية والتزود بالمال والسلاح.
تأسست هيكلية عناصر “ولاية الصعيد” على خلايا عنقودية من الأقارب، للحفاظ على السرية وضمان عدم الرصد الأمني وعدم إثارة الشكوك على خلفية الاجتماع المتكرر، علاوة على من يتم تجنيدهم من تنظيمات متشددة بمحافظات الصعيد، رهانا على التوتر في العلاقات بين المسلمين.
وجاء ضمن اعترافات، وليد أبوالمجد عضو التنظيم، في التحقيقات بعد القبض عليه، أن سعد كان دائم الحديث عن حجم الأموال والأسلحة داخل الأديرة وأن من بداخلها إنما يعدون العدة لقتال المسلمين.
يمتلك عمرو سعد، ميزة تكمن في قدراته على التخفي والهروب ولا سيما مع كونه خبيرا بدروب وطرق صحراء الصعيد الوعرة والتي تمتاز بوجود كهوف مرتفعة مئات الأمتار عن سطح الأرض، على أن يظل دائما بمفرده بإحدى هذه الكهوف، مستعدا للهرب عند استشعار الخطر عن طريق سيارات الدفع الرباعي التي يتوجه بها إما إلى داخل ليبيا وإما إذا تعذر عليه ذلك فيقوم تغيير مكان اختبائه الذي لا يظل به سوى مدة قصيرة.
بعد نجاح الأجهزة الأمنية تدريجيا في إحكام سيطرتها على سيناء، اتجه تفكير داعش لضرورة تخفيف الضغط على التنظيم في سيناء عبر خلق حضور له بالصعيد ومحاولة نقل المعركة لصفوف المدنيين والأقباط.