الكثير من التواضع، الكثير من البراعة

كم من مرّة أجد نفسي مشدودا غير مجبر لمتابعة مباريات نادي تشيلسي الإنكليزي. كم من مرّة لا أثق في نفسي المترددة والمنقسمة عادة بين عدة أندية ومنتخبات، فلا أجد مفرّا من متابعة مباريات المنتخب الفرنسي.
ثمة بلا شك سحر. ثمة دافع أقوى من السحر، يشدني في أحيان عدّة للغوص في تفاصيل وبعض مكامن مباريات نادي تشيلسي ومنتخب فرنسا، بكل بساطة ثمة لاعب طالما أبهرني وأطربني كلما داعب الكرة ووجّهها نحو زملائه.
هو لاعب يملك من الحماس ما يملأ كل مستقر. هو لاعب لا يهدأ، لا يكلّ ولا يتعب، ولو شاء لعب أربع مباريات متتالية، هو ليس لاعبا ينتمي إلى مصاف النجوم البراقة التي تبهر الأعين، بل هو بكل بساطة يشبه حجر الزاوية عند تشييد المنزل أو لنقل الوتد الرئيس الذي تتكئ عليه كل خيمة.
إنه الفرنسي نغولو كانتي لاعب وسط تشيلسي، الذي لم يكن يوما مثار اهتمام ومتابعة مكثفة من قبل أحباء الكرة أو وسائل الإعلام، لكنه رغم ذلك كان دوما مطمح كل مدرب عالمي ساع إلى تكوين فريق مهاب.
طيلة الأيام الأخيرة اختلفت الآراء وتباينت بخصوص أحقية بعض المتوجين خلال الحفل السنوي للفيفا. انقسم الجميع بين مؤيد لمنح الكرواتي لوكا مودريتش جائزة الأفضل على حساب البرتغالي كريستيانو رونالدو والمصري محمد صلاح.
اختلف أيضا الجميع حول أحقية بعض الجوائز المسندة لبعض اللاعبين وخاصة في ما يتعلق بالتشكيلة الأساسية، لكن بالتوازي مع ذلك حصل إجماع تام بخصوص أهلية هذا الفرنسي كانتي بالوجود ضمن قائمة الأفضل.
فهذا اللاعب الذي لم يجد دائما أي احتفاء إعلامي يوفيه حقه بعد عطائه الرائع طيلة السنوات الماضية، حقّ له أن يكون اليوم ضمن كوكبة النجباء والبارعين بعد أداء مبهر خلال مونديال روسيا الأخير الذي تألق فيه وساعد منتخب بلاده على الظفر باللقب.
اليوم بات كانتي ضمن أكثر اللاعبين المطلوبين من الأندية الكبرى عالميا، فبرشلونة بدأ من الآن يخطط للتعاقد معه في الموسم المقبل، وبدوره فإن باريس سان جرمان بصدد التحضير لتقديم عرض مغر للغاية يليق بمكانة وعبقرية نجم خط الوسط العالمي لنادي تشيلسي.
كل أعين الفنيين غالبا ما تقف عند تحليل المباريات التي يخوضها كانتي على لمسات هذا اللاعب ووقفته الرائعة في وسط الميدان. الجميع متفق على أن هذا الفتى بصدد البرهنة على أنه أحد أفضل اللاعبين في العالم حتى وإن تغافلت عنه وسائل الإعلام وانسحبت من محيطه الأضواء.
لكن.. لحظة، فكانتي قد يكون يميل إلى هذه الوضعية التي تجنّبه الضغوط ومتطلبات النجومية الزائفة، فكل من يعرفه وكل من يتابع فصول حياته وتطور مراحل مسيرته الرياضية يدرك جيدا أنه كان ولا يزال ذلك الفتى الخجول المتواضع.
هو الفتى الذي لم تربكه بتاتا مغريات الصف الأول لأفضل اللاعبين عالميا. ولم تغره بالمرة متطلبات صعوده التاريخي في سلم المجد، لقد ظل وفيا لتواضعه، ظل وفيا لأصدقائه القدامى، في هذا السياق استحضرت ما قام به هذا “النجم” عندما لبى دعوة لاعب سبق أن كان زميلا له في فريق كاين الفرنسي للقاء استعادة ذكريات.
الأكثر من ذلك أن كانتي لم يتردد لحظة في قبول دعوة للعشاء مقدمة من عدد من المشجعين في مدينة لندن، لقد استلذ الدعوة وقبلها بكل رحابة صدر.
أما في الميدان، فإن كانتي من النادر، إن لم نقل من المستحيل، أن يدخل في صدام مع أحد المنافسين حتى وإن كان مظلوما. لقد اتشح دوما برداء التواضع والخجل وبدا وكأنه استلهم من أقوال المفكرين والفلاسفة حول قيمة التواضع، فاتخذ ذلك شعارا له في الحياة.
“ثق بأن الصوت الهادئ أقوى من الصراخ وأن التهذيب يهزم الوقاحة وأن التواضع يحطم الغرور”، هكذا ذكر أحد المفكرين، وهكذا سيّر كانتي حياته. لقد أدرك جيدا أن “أشد العلماء تواضعا أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاء ماء”.
كانتي ربما تماهى تماما مع ذلك “الشخص المتواضع الذي يمتلك الكثير ليتواضع به”، فارتقى مسافات شاهقة في عنان السماء واكتسب ود منافسيه قبل أصدقائه، لقد حظي دوما باحترام الجميع، فصوته لا يعلو، وشعاره كان طيلة هذه المسيرة الموفقة “اعمل في صمت، تكسب المزيد”.
لقد كسب هذا الفتى الشغوف والبارع ثقة الجميع وأضحى اليوم أحد أفضل اللاعبين في العالم، لقد بات قدوة لكل اللاعبين الذين عرفوه ولعبوا معه. دعنا نستحضر ما حصل معه مع بقية زملائه في المنتخب الفرنسي عقب التتويج باللقب العالمي، فالكل تغنى بكانتي والكل أقرّ بأن لكانتي مكانة رفيعة للغاية سواء فوق الميدان أو في حجرات الملابس.
رفع على الأعناق وهو يغالب نفسه ويغطي وجهه بكفي يديه كي يداري خجله، لم يتعوّد على أن يكون في مكان أرقى من بقية أقرانه، لذلك حقّ له أن يسمو بتواضعه وخجله، فلا التواضع أحبط عزائمه ولا الخجل أعاقه وقلّل من شأنه وسط كوكبة النجوم في العالم.