صناعة الإشاعة.. وجه لحرب باردة

يعيش العالم اليوم في كافة أصقاع الأرض، دون اعتبار لمدى التطور الاجتماعي والحضاري ودون اعتبار للفوارق الطبيعية والبشرية، على وقع التضخيم والتهويل والمبالغة، ولعلّ الوجه الأبرز لذلك الإشاعة ومدى تأثيرها في المحيط الأسري والاجتماعي وحتى العالمي. إذ أن انتشارها بتوصيف شعري “كالنار في الهشيم”، وبتوصيف فيزيائي “أسرع من الضوء”، وبتوصيف عسكري كـ”الطائرة الشبح” لا يعترضها أي حاجز أو رادار.
كانت الإشاعة تنطلق بصفة تلقائية، عبارة عن كذبة بيضاء تنتشر بسرعة فائقة وتتخذ حيزا هاما من اهتمام الناس، ولكنها أضحت في أيامنا هذه صناعة قائمة الذات، تدرّس وتستعمل في مجالات الحياة كافة؛ اجتماعيا وسياسيا وعسكريا ومخابراتيا واقتصاديا.. إنها بكل بساطة أصبحت وسيلة من وسائل الهيمنة بأشكالها المختلفة المادية أو النفسية أو الذهنية.
للإشاعة وتداعياتها مستويات عديدة تختلف باختلاف الهدف من نشرها، فقد تكون الغاية شخصية لا تتعدى الفضاء الأسري الضيق، فيعمد أحدهم إلى بثّ إشاعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كردّة فعل على إساءة تعرّض لها من طرف قريب من أقربائه فيخترع أمرا يرنو من خلاله إلى تشويه صورة المعني بالأمر، وأغلب هذه التصرفات تنبع من حقد دفين يتولد عن خلاف عاطفي أو أسري أو مادي.
وقد تكون الإشاعة موجّهة لخدمة غرض اقتصادي في إطار المنافسة على احتكار السوق، فيعمد البعض إلى تشويه صورة صنف بعينه من البضائع والمنتجات للحدّ من الإقبال على شرائه، ويُعتمد ذلك في إطار محلي أو وطني أو عالمي، في إطار المنافسة، التي تفتقد بهذا الفعل سمة النزاهة ويصبح كل شيء متاحا من أجل السيطرة على السوق المحلية أو العالمية. الغريب في الأمر أن الأفراد والعائلات والمجتمعات يستجيبون بكثافة لتصديق الإشاعة خوفا على الصحّة أو محاولة تجنب كل ما يسبب الأمراض.
فكم من منتوج صرنا لا نتحمل استهلاكه لحضور الإشاعة المشوهة دائما في أذهاننا، ولولا حرصنا على عدم المشاركة في نشر الإشاعة -مهما كانت درجة الصدق أو الكذب فيها- لذكرنا بعض المواد الاستهلاكية التي رافقها جدل كبير وحامت حولها شكوك تتعلق بالنظافة والسلامة. ويتعاظم التنافس حتى يصير بين أكبر الشركات المنتجة في العالم في المجالات الاستهلاكية العديدة وكمثال فقط الشركات المنتجة للوسائل التكنولوجية كالهواتف وغيرها من الأجهزة.
أما الإشاعة السياسية فهي الأكثر شيوعا بين الناس والأكثر قدرة على الانتشار البرقي، فالساسة على حدّ السواء ومهما اختلفوا في مراجعهم الأيديولوجية والفكرية فإن لهم مؤيدين كما أن لهم معارضين كثيرين أيضا، وبما أنهم من الشخصيات المعروفة اجتماعيا فهم محلّ اهتمام متزايد من الخاصة والعامة، وقد تكون للإشاعة السياسية واجهتان، إحداهما إيجابية حيث تزيد من التعريف بالشخصية السياسية بطريقة غير مباشرة، والأخرى سلبية لأنها تجعل صورة الشخصية تهتزّ لدى مؤيديها كما معارضيها. وفي بعض المواقف قد يعمد الشخص ذاته إلى إنتاج الإشاعة وبثها لتنتشر وذلك بحثا عن الإثارة الإعلامية.
وإذا كانت الإشاعة تخدم بعض الأطراف في مجالي الاقتصاد والسياسة بطريقة غير شرعية، وتكسب من وراء نشرها إلى أبعد مدى ممكن، فإنها ولا شك تحدث كثيرا من اللخبطة والتردّد لدى الأشخاص والعائلات. فعلى سبيل الذكر لا الحصر تعيش الأسر التونسية هذه الأيام على وقع “إشاعة الأعاصير” التي ستضرب البلاد من حين إلى آخر، واتضح في ما بعد أن الأمر لا يعدو كونه تغيّرا مناخيا موسميا عاديا نزلت خلاله كميات من الأمطار فاقت في الشمال التونسي مثلا المعدلات المألوفة ما تسبب في خسائر بشرية ومادية، ولكنها لم تصل إلى درجة الإعصار.
تفاقم الأمر في وسائل التواصل الاجتماعي وكثرت المنشورات الداعية إلى الحيطة وأخذ الحذر؛ في جانب منها تعدّ أمرا إيجابيا لغاية الحدّ من الخسائر التي قد تسببها هذه التغيرات المناخية الفجئية وغير المنتظرة في مجملها.
أما الجانب السلبي فيها فتمثّل في موجة الخوف التي اجتاحت الآباء والأمهات تجاه منظوريهم، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا سنسوق البعض منها؛ إشاعة تقول إن هناك عصابة متخصصة في خطف الأطفال لغاية التجارة بالأعضاء، فيتضاعف خوف الوالدين ويصبح هوسا قاتلا ويلازمان مرافقة منظورهما مما يسبب له حرجا أيضا.
إشاعة أخرى تتعلق بأصناف جديدة من حبوب المخدرات فتصبح كل الحبوب حتى الحلوى منها مخدرا يجب الابتعاد عنه، ولكن في المقابل قد تكون حافزا للمراهقين للاكتشاف فينخرطون في التجربة دون وعي بمخاطرها.
إشاعة تتعلق بتفشي ظاهرة الاغتصاب ما يسبب رعبا لدى الفتيات وتصبح جلّ تنقلاتهن ثقيلة على النفس، ويصبن بالريبة من كل مار أو ناظر بعفوية.
كل ما ذكرنا لا يعني أن لا وجود لمثل هذه المظاهر السيئة في المجتمع ولكنها تصبح مقلقة إذا وقع تهويلها وتضخيمها عبر حوادث لا وجود لها أصلا.
ختاما نؤكد أن الإشاعة أضحت صناعة لها منتجوها المتخصصون ولها بيئات انتشارها المخصوصة بحسب أهدافها المعلنة والخفية.