العين واللّسان

العين تشيخ بسرعة مخيفة وتحتاج مع مرور الزمن إلى نظارات، بينما اللسان تعتّقه الأيام والسنون، لا يمكن أن نكتب روايات مقنعة في يفاعتنا، لكن قد ننجز لوحات مبهرة في سنوات مبكرة.
الأربعاء 2018/09/19
العين وسننها مرتبطتان بالزمن المتسرّب بخفة العمر لوحة: هيلدا حياري

تتوق العيون إلى الغرابة بقدر ما تحتاج الألسنة إلى محيط أليف، اللغات مبنية على معرفة مرجعية، بينما تتعلم العين الاكتشاف، لهذا قد لا يحتاج ناقد الفن إلى تعلم الصينية للكتابة عن منحوتات من القرن السابع عشر في إقليم التبت، ولا لتعلم الإيطالية للتمتع بلوحات ميكيل أونج، بينما يفقد أي صلة مع تلك الثقافات بمجرد دخول مكتباتها.

لهذا كانت العين وسننها مرتبطتان بالزمن المتسرّب بخفة العمر، بينما الألفاظ وما تبتدعه من تعبيرات مستقرة في مدونة ثابتة. وبقدر ما تشكل اللوحة والمنحوتة توقا إلى تجاوز الحاضر والتعلق بالقادم الغامض والملتبس، فإن الروايات لا تكف عن إيهامنا بالحاضر والماضي، ما دام الحكم والتقييم يحتاجان إلى أصوات وحوار ومنظومة كلام، تحكي ما جرى. في هذا المقام المعنوي تحديدا أدرك ذلك المقطع شديد التكثيف من يوميات رمبرانت حيث يقول “في كل مرة أنظر فيها إلى نفسي أجدني مختلفا؛ الملامح، البشرة، جذور اللحية، الغضون…”.

العين تشيخ بسرعة مخيفة وتحتاج مع مرور الزمن إلى نظارات، بينما اللسان تعتّقه الأيام والسنون، لا يمكن أن نكتب روايات مقنعة في يفاعتنا، لكن قد ننجز لوحات مبهرة في سنوات مبكرة، لقد رسم بيكاسو لوحة “الرجل العجوز” وهو لم يتجاوز سن السادسة عشرة بعد، بينما لم يشرع عبدالرحمن منيف في نشر رواياته إلا بعد سن الأربعين. يمكن أن نستعمل هنا تعبير “جون بيرجر” الذي يعتبر الرسم “فنا يذكرنا بأن الزمن والشيء الظاهر للعيان إنما يتجليان أمامنا في وضع تزاوجي” أو أن نتحدث عن الرواية بوصفها فن التأمل في الزمن والذوات المنتهية.

تبادرت كل هذه الأفكار إلى ذهني وأنا أتأمل الرعاية الخاصة التي تحظى بها الأساليب والأسماء الجديدة في عالم الفن، مجمل الأروقة والإقامات والمؤسسات المالية تبتدع عشرات الصيغ للدفع بالعيون الطازجة، في تصالح تام مع المجهول والقادم من الظلال، أمر يذكرني بهوس مخرجين عباقرة بممثلين جدد، وبآخرين لم تكن لهم علاقة بالكاميرا من قبل، في الآن ذاته الذي تستكين فيه المطابع ودور النشر إلى استعادة الراسخ والمعروف والمنتشر. والتنقيب في كل مرة عن مخطوطات ضائعة وأخرى ملفقة ونسخ مزيدة ومنقحة لروائيين وشعراء وقصاصين قارين… في سلوك الناشرين نجد تواؤما غريبا مع الصوت الواحد والخالد أي مع استبداد بصيغة ما، وسلطوية قامعة، بينما في تلقائية المعرض انحياز للتداول والتكافؤ ، والاعتراف الشجاع بأن نفس الإبداع قصير وذروته لا تتجاوز سنوات معدودة، ومنطق الفن والانتشار والذكاء يقتضي تطلعا مستمرا إلى بصائر مضافة.

15