حسين صالح.. كاتب وقارئ وحكواتي

احتفظ لحسين صالح بمحياه الطَّلق، والمهون مِن الصِّعاب إذا ما شكوتها إليه، والمتجاوز للقلق. احتفظ بصورته كاتباً وقارئاً نهماً وحكواتياً أيضاً، وربَّ قائل يقول: وما تعني بالحكواتي؟! أعني تحويل ما يقرأ إلى حكايات كأنه عاشها وكتبها.
الثلاثاء 2018/08/28
الراحل حسين صالح مع زوجته في آخر أيامه

كنت أسمع وأقرأ عن الفقيد المثقف حسين صالح، حتى التقيته في مكتب مجلة “المجلة”، وكان أحد المحررين، وأنا أكتب صفحة أسبوعية في قضايا التُّراث الإسلامي، العام 1999، أزوره في مكتبه، حاملاً الموضوع والصورة المناسبة له لأسلمهما له يداً بيد. وكانت معاناة، قبل استخدام غوغل، أن تجد صورة مناسبة لموضوع تراثي إسلامي.

 كنت أستأنس بلقائه الدافئ، ذلك قبل أن أتعرف على الإنترنت. قال لي يوماً: لماذا لا ترسل المادة الأسبوعية عبر الإنترنت “الإيميل”؟! فقلت له: وما يكون الإيميل، قال: بريد إلكتروني! وقد تم ذلك، فأرسلتُ إليه المادة الأولى إلكترونياً، وما إن أرسلتها حتى اتصلت به، لأطمئن على وصولها واستلامها! فضحك، وقال: التأكيد تعرفه مِن الإيميل نفسه. كان هذا أول عهدي بالبريد الإلكتروني عبر حسين صالح.

كان حسين صالح كاتباً مقروءاً بسبب سهولة أسلوبه، وعمق فكرته، وخفة دمه، خلط الجد بالهزل، بتشكيل ذكي مفيد فيه العبرة واللغة العالية، يعتني بعباراته ومفرداته. استفاد كثيراً من قراءته لكُتاب أجانب وكتب التراث العربي. اللقاء به يغني عن قراءة الكتاب الذي قرأه وهضمه، كي يحكيه وكأنه الكاتب نفسه، وبتفاصيل مشوقة، يحكيها بنبرته الخافتة. الدقائق التي تقفها معه، وهو يدخن سيجارته، تحضر أسماء من عمق التاريخ والحاضر، وكل له حكايته في ذهنه.

كان يحفظ نصوصاً من كتب الأدب العربي، حكايات ونصوصا أوردها الجاحظ في البيان والتبيين، وحكايات أوردها صاحب الأغاني أبو الفرج الأصفهاني وغيرهما، فلا يشغل وقته إلا القراءة والكتابة.

 يتناول سير الكبار من سياسيين ومثقفين. لم تكن اللقاءات مع فقيدنا حسين صالح كثيرة، لكنها غنية بالثقافة والأدب، فكان حاضر البداهة، ومجهز الشَّاهد لكل موقف يتداول في نشرات الأخبار. تغريك ضحكته بالتواصل معه، وبالاطمئنان للتواصل معه، وفقده عند الغياب، فكيف إذا صار الغياب أبدياً.

انقطعتُ عن حسين صالح بعد مجلة “المجلة” حيناً طويلاً، حتى وجدته أمامي حاضراً في صحيفة “العرب”، يأتي من محل إقامته (خارج لندن) بين الحين والآخر، لم يتغير كثيراً عمَّا كان عليه، سوى أن التعب دب في جسده، والمرض أخذ يُكشر له عن أنيابه، وهو مصر على عدم رمي سيجارته، وضحكته المجلجلة والدافئة في الوقت نفسه.

كانت حياته مملوءة بالتحدي، وأسباب موته شرسة، فإذا تسمعه معلقاً وضاحكاً من أعماقه تظن أن الموت لا ينازله تلك المنازلة غير المتكافئة، التي استسلم فيها لعدوه الجبار، ومحمد مهدي الجواهري يقول في هذا العدو اللئيم “أنا أبغض الموت اللئيم وطيفه/ بغضي طيوف مخاتل نصَّابِ/ذئب ترصدني وفوق نيوبه/ دم إخوتي وأقاربي وصحابي”.

احتفظ لحسين صالح بمحياه الطَّلق، والمهون مِن الصِّعاب إذا ما شكوتها إليه، والمتجاوز للقلق. احتفظ بصورته كاتباً وقارئاً نهماً وحكواتياً أيضاً، وربَّ قائل يقول: وما تعني بالحكواتي؟! أعني تحويل ما يقرأ إلى حكايات كأنه عاشها وكتبها.

24