إعادة ضبط المشهد الصوفي واحدة من آليات الحرب على التطرف

مفتي مصر السابق علي جمعة يدخل تحديا صوفيا كبيرا بعد اعتماد الطريقة الشاذلية الصديقية التي يرأسها، ضمن الطرق الصوفية.
الاثنين 2018/08/06
الصوفية تعول عليها مصر

القاهرة - دخل علي جمعة، مفتي مصر السابق، تحديا صوفيا كبيرا بعد اعتماد الطريقة الشاذلية الصديقية التي يرأسها، ضمن الطرق الصوفية. ولا يعود استحقاق الزعامة إلى خبرات علمية أو اعتبارات سلطوية نتيجة انحياز سياسي ما فقط، إنما يرتبط بشكل رئيسي باسم العائلة التي غالبًا ما تكون عريقة في التصوف، ثم يتوارث زعامة الطريقة الأبناء عن آبائهم وأجدادهم.

ورفض المجلس الأعلى للطرق الصوفية الاسم المبدئي للطريقة “العلية الشاذلية”، فالعلية نسبة لعلي جمعة نفسه، في إشارة لافتة إلى أن الثقل الذي اكتسبته رموز ووجوه الطرق من خلال الإرث العائلي، من الصعب مساواته باسم شخص مهما بلغت مكانته العلمية، ليستقر الاسم أخيرًا على “الطريقة الشاذلية الصديقية”.

 

المراهنة على دعم التيارات الصوفية كبديل للأصولية المتشددة وباقي جماعات الإسلام السياسي ليست دائما أمرا صائبا ووجيها، ذلك أن الصوفية نفسها غير منزهة عن المسألة السياسية والعصبيات العائلية وغيرها. وهذا ما نلمسه في حيثيات رغبة مفتي مصر السابق علي جمعة في تزعم التيار الصوفي الذي تتعدد وتتشعب مدارسه في مصر.

يستند جمعة على رصيد مواقفه السياسية، وبنى شعبيته في الأساس من الانحياز إلى جانب أفكار النظام الحاكم، وليس من منطلق الرمزية الدينية التي تتحقق بعد نجاحات مشهودة في مجالات المعرفة والتربية الدينية، وترجع الحصيلة العددية لأتباعه، وتقدر بنحو نصف مليون داخل مصر وخارجها حتى الآن، للموقف السياسي وليس للمنهجية الفكرية.

وأثارت خطوة تدشين الطريقة الجديدة برئاسة علي جمعة، مخاوف مشايخ الطرق القديمة، ومتوقع أن تلقى منهم ممانعة بالنظر إلى تداعيات حرمانهم من مزايا عديدة، واحتمال الخصم من نفوذهم التقليدي.

صمت مرحلي

يعود الصمت المرحلي وإعلان البعض منهم مباركته لتأسيس الطريقة الجديدة لما هو مقروء من وراء الدفع بها كونه يتعلق بإرادة سياسية عليا تحركها تصورات هدفها إعادة ضبط المشهد الصوفي، أملا في أن يصبح أكثر فاعلية وقدرة على التأثير في الواقع المصري.

لن يكون علي جمعة قادرًا على التأثير في الكتلة الصلبة داخل الحالة الصوفية المصرية، والتي تلتزم بعادات الصوفية المتوارثة طوال عقود، وهي كتلة خاضعة للوراثة العائلية، ولا تضع في أولوياتها التحصيل العلمي، وفق أسلوب مدرسة علي جمعة “الصوفية العلمية المتسننة”، علاوة على أنها مرتبطة بمصالح اقتصادية معقدة ومتشعبة.

يظل المستهدف وفق تصور مهندسي المشروع، فئة الشباب ممن هي خارج سياق التيار الطرقي الصوفي، ويُراد استقطابهم باتجاه حالة دينية تشبع حاجتهم الدينية، بما يبعدهم عن التطرف، وتجسد ما يميز الصوفية في ما يتعلق بأسلوب التعاطي مع الشأن السياسي العام، وفي نفس الوقت ترضي لدى الشباب رغبة الانتساب لحالة متوافقة مع صحيح الشرع وغير مغرقة في الطقوسية والدروشة.

يقر الباحث في الشؤون الإسلامية محمد جاد الزغبي، بوجاهة الفكرة، في حين يستبعد نجاح علي جمعة تحديدًا الإسهام في نجاحها، مشددًا على أن الرجل حرقته المواقف السياسية المنحازة، وهناك نماذج ذات ثقل علمي وكفاءة إدارية أحرقها جماهيريًا عدم حذرها السياسي، في مقدمتها جمعة.

وأوضح الزغبي لـ”العرب”، أن أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قد يكون الأقرب للنجاح في مهمة كهذه، فهو إلى جانب ثقله المعرفي ومكانته العلمية كان حذرًا في مواقفه السياسية، وسط تأييده للنظام الحاكم، علاوة على أنه ينتمي إلى عائلة عريقة في التصوف الموروث عن الأجداد.

وجد هذا الطرح ما يدعمه عندما رفضت المشيخة العامة للطرق الصوفية اعتماد الطريقة الخلوتية الحسانية، تحت زعم عدم استيفاء الشروط اللازمة، وأسسها الجد الأكبر لشيخ الأزهر أحمد الطيب، وتناوب على مشيختها الأبناء ويرأسها حاليًا شقيقه الشيخ محمد الطيب.

لا يقتصر الهدف من إطلاق النموذج الصوفي الجديد على سد فراغ الدعوة الإسلامية ومواجهة الأفكار الأصولية المتشددة، بل هناك رغبة في تقوية تيار علي جمعة ليقوم بمهام وأدوار أثبتت الوقائع أن المؤسسة الدينية الرسمية غير قادرة على إنجازها بالشكل المطلوب، لأن الحضور الصوفي لمدرسة جمعة سوف يمنحه البعض ممّا لدى الأزهر من نفوذ وامتداد في مساحات بعيدة ومهمة. علاوة على سعي الحكومة إلى أن تستبدل بالسلفية تيارًا آخر داعمًا لمواقفها السياسية بأيديولوجية وسطية وأداء سياسي خاضع للسيطرة، وهذا يتطلب إخضاع المشهد الصوفي لتحولات كبيرة تجعله قادرًا فعليًا على منافسة السلفية وهزيمتها.

بين الأزهر والصوفية

ما يحول دون نجاح علي جمعة في مهمته السياسية، أن مسار التصحيح وفق تصوره لا يؤدي بالضرورة إلى تجديد الخطاب الديني، بالنظر إلى ما قد يؤدي إليه من فقدان الحالة الصوفية لهويتها لصالح منهجية هجين بين السمت الأزهري والتصوف، بعد عزل الفلسفة عنه، امتدادًا لمدرسة الغزالي والجنيد، وأخيرًا المنهج العلمي الذي يخالف السلفية في عدد من مسائل العقيدة والفقه.

خطوة تدشين الطريقة الجديدة برئاسة علي جمعة، أثارت مخاوف مشايخ الطرق القديمة، ومتوقع أن تلقى منهم ممانعة

على طريقة الغزالي قديمًا يُحرم تيار علي جمعة، تيار التنوير العقلاني من الإسهام في عملية التحديث وبناء الدولة المدنية، ويشن جمعة هجومًا بين حين وآخر، على مفكرين علمانيين، لا يرون الحل في الإحالة إلى نموذج ديني آخر تقود تصوراته للسيطرة على الواقع الاجتماعي.

من داخل المنهجية الصوفية، تنتصر مدرسة جمعة لجناح أقرب للأصولية السلفية “يتبع المذهب الشافعي” على حساب أصحاب الرؤى التنويرية الشاملة من فلاسفة ومفكرين، أمثال الحلاج وابن عربي.

لم تنجح جهود سابقة في هذا المجال، قادها في السابق محمد زكي إبراهيم، الأب الروحي لعلي جمعة، وترأس الطريقة الأحمدية الشاذلية منذ العام 1976، وخاض بها معارك عديدة، كل ذلك لم تؤد لتحقيق أهدافه القريبة من أهداف مشروع جمعة اليوم والمتعلقة أولًا بإصلاح الصوفية وتنقيتها من انحرافاتها المجتمعية.

لا تعبّر الأعداد (حوالي نصف مليون شخص) التي انضمت إلى طريقة جمعة الجديدة عن نجاح كبير، بالنظر إلى أن تعداد الصوفيين يقارب الخمسة عشر مليونًا ينتشرون بين كافة طوائف المجتمع، كما أن غالبية المنضمين من متبني مواقف الشيخ السياسية، وليسوا من المريدين من منطلق قناعات فكرية ومنهجية.

يؤشر تدشين الطريقة الشاذلية الصديقية على إرادة قوية لتعميم نموذج ومدرسة جمعة في التصوف، على مجمل الحالة الصوفية في مصر، ونقلها من حيز الاستغراق الطقوسي، إلى حيز التأثير الفكري والعلمي، وفق أساليب مدرسته التي يطلق عليها “مدرسة التصوف العلمي”.

يرعى جمعة، المرشح بعد دخوله ساحة التصوف الطرقي، لرئاسة المجلس الأعلى للصوفية خلفًا للشيخ عبدالهادي القصبي مشروعًا لتصحيح الخطاب الصوفي وضبط أداء الحالة الصوفية بالانتقال من مجرد الطقوس الفلكلورية والقصائد الشعرية إلى حيز الدروس العلمية المنهجية.

وينشط رموز هذه المدرسة في عديد من المساجد، أشهرها السيدة نفيسة بوسط القاهرة، وابن عطاءالله السكندري بمنطقة المقطم في القاهرة القديمة، بهدف إحياء الصوفية الملتزمة بالشرع وأحكام الدين، ومن أشهر المحاضرين مجدي عاشور المستشار العلمي لمفتي الجمهورية، ومحمد مهنا مستشار شيخ الأزهر، وأسامة الأزهري مستشار رئيس الجمهورية، وعمرو الورداني من علماء الأزهر، والداعية الشيخ الحبيب الجفري وآخرين.

وحذر مشايخ الطرق المريدين من حضور تلك الندوات ومن الاستماع لتوجيهات علماء ودعاة غير تابعين للطرق، كما دعا البعض من رموز الصوفية إلى سرعة إعادة ترتيب البيت الصوفي وإنهاء الانقسام والتشتت داخله، مشددين على أن سبب التدخل في الشأن الصوفي ومحاولات إصلاحه من خارجه، هو كثرة الخلافات بين رموز الطرق الكبرى.

ومن أشهر الخلافات، ما يجري بين تيار الشيخ علاء أبوالعزايم، الرئيس الحالي للاتحاد العالمي للطرق الصوفية، وجبهة الشيخ عبدالهادي القصبي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية.

وتتنافس عدة أجنحة على سد الفراغ في الساحة الإسلامية، بعد عزل جماعة الإخوان والرغبة في تحجيم التيار السلفي، على رأسها المؤسسات الدينية الرسمية بهياكلها التقليدية ممثلة في الأزهر ودار الإفتاء، ومدرسة علي جمعة الصاعدة، وعلماء ودعاة من وزارة الأوقاف وفي مقدمتهم الشيخ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف.

يعوق هذا التنازع إحراز نتائج ملموسة وواقعية في ملف تجديد الخطاب الديني ويحول دون خلق رؤية موحدة وشاملة لإصلاح الحالة الدينية المتشابكة، فلن ينصلح حال الأزهر إذا لم تشمله خطة الإصلاح على قدم المساواة مع الواقع الصوفي.

13