ثوار تموز

"وكل عام حين يعشب الثرى نجوع/ ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع"، قالها السياب في أنشودة المطر، قبل عقود ومضى يتيما محمولا على أكف نفر من أخلص أصحابه عادوا به غريبا من الخليج، ليدفن في العراق بمدينة البصرة.
وقصة فقر العراق الغني، بل فائق الغنى، قصة أزلية فلا في فيضان نهريه الجامحين خير ولا في جدبهما خير، فاض النهر جفّ النهر، أضحيا بديلا عن مات الملك عاش الملك، في بلد يملك كل شيء؛ الأرض والسماء الصافية والنجوم المتلألئة، والنهرين الخالدين من أدناه إلى أقصاه، والبحيرات والسهول والهضاب والجبال، من أعلى قمة كرمند في كردستان حتى آخر مصبات شط العرب في نهاية الخليج، ونهرا ثالثا خبأه الله للعراقيين لم يظهر بعد، يقول عنه الجيولوجيون إنه يمتد من البحر الأسود إلى الخليج، له فوهات ثلاث بحيرة الرزازة والحبانية وساوة، وله خصوبة أرض ما أن تُرمى فيها نواة التمر حتى تنمو نخلة بعد حين، وما إن تأكل على تراب عراقي ويتساقط منك بذر الثمر حتى تخضر الأرض عشبا وتراه شجرا، تدخلت السياسة فيه مثل أفعى إبليس الذي التوى على وادي الرافدين ليخدع أوادمه ويحيل تفكيرهم إلى سوءاتهم متمثلة في الطائفية البغضاء، والإثنيات التي انحدروا منها، وانقطع الحبل الذي كان يربط ذاك الثور بالنخل كي لا يهتاج ويدمّر المزرعة، بدأ من سيل دماء العائلة المالكة على أرض العراق عام 1958.
عندها دخلت البلاد في حروب طروادة، التي استمرت أكثر من ستين عاما هي أكثر من داحس والغبراء، حتى فقد العراق ثرواته وتسلط عليه من لا يرحمه من ولاة قساة قادوه لحتوف أبنائه، في حروب دمرت النخل وأهلكت الحرث والنسل وحولت الأرض صحارى قاحلة.
ظل الشعب يهزج دوما من أجل كرامته ولم تتوقف يوما أناشيد تموز ولوعة عشتار وصراعهما مع شياطين العالم السفلي، الذين تمثلوا في لصوص محترفين هم أشبه بعصابة دولية سرقت أحلام البسطاء وبددت ثروات البلاد فانحسرت مياهها، وحرمت من نعمة العيش الرغيد، وفقد الأمان وشاخ الزمان العراقي، وصار الناس بلا عمل، وبلا أمل، حتى وجدوا أنفسهم، في الشوارع يلاحقون السراق ويحرقون مقرات السلطة، في مشهد متكرر في كل زمان من عمر الحكم الجمهوري الموحد والاتحادي الديمقراطي التعددي الفيدرالي!
أضحى تموز للعراقيين رمزا للخلاص، وعنوانا للثورة يسجل فيه الشعب تاريخا جديدا لولادته.