عمرو سعد يطلق النار على خزائن أسرار المجتمع

البداية القوية تعد السبب الرئيسي في صعود نجوميته سريعا، وهو ما جعل الجمهور يبحث عن أعماله ويؤمن بها باعتباره من أهم النجوم الذين يملكون رؤية وحسا مجتمعيا واضحا، لأنه اختار مسارا مختلفا عن أبناء جيله الذين اهتم الكثير منهم بتخليد أسمائهم ضمن قوائم المشاهير مفتولي العضلات وأصحاب الأعلى إيرادات، بعيدا عن المحتوى والمضمون والرصيد الرصين.
لكن الفنان عمرو سعد اقتنص فرصته الأولى للبطولة المطلقة في فيلم “حين ميسرة”، حاملا على كتفيه لواء العامة والبسطاء والمهمشين الذين غاب من يمثّلهم ويعبّر عن قضاياهم بصدق ومعايشة ووعي بالأزمات الحياتية القاسية.
ولد سعد في حي “السيدة زينب” أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة، وقدّم في ما بعد سلسلة من الأعمال رصدت حال هذا الحي وغيره من الأحياء الشعبية وشرّحتها مجتمعيا وإنسانيا، بعد أن ابتعد أغلب نجوم جيله عن اختيار هذه النوعية من الأعمال هادفة.
لعبت نشأة سعد في الحي الشعبي الشهير دورا رئيسيا في قدرته على فهم واستيعاب شخصية الطبقة المتوسطة والفقيرة التي تقع دائما أمام مرمى نيران الفشل الحكومي والتدهور الاقتصادي.
المدينة والآخر
استوعب سعد الرؤى والمكوّنات المحيطة به، ودمجها مع المدرسة السينمائية التي نشأ فيها وكانت سببا في استكمال حالة التشبّع التي بات عليها الآن، بداية من عمله مع المخرج يسري نصرالله في فيلم “المدينة” ثم الراحل يوسف شاهين في “الآخر” وصولا للمخرج خالد يوسف أحد تلاميذ شاهين والأكثر اهتماما بقضايا مجتمع العشوائيات، وربطه بالنسيج السياسي والاقتصادي للمراحل المختلفة التي تمر بها الدولة.
بعيدا عن تجارب سعد مع مكتشفه الحقيقي خالد يوسف، فإن ما ساهم في نجاحه في السنوات الأخيرة هي قراءته الجيدة للمشهد الفني وإرادته القوية في أن يحفر لنفسه مكانة وعلامة بارزتين.
يبدو أن دراسة سعد للديكور في كلية الفنون التطبيقية، جعلته يتنقل في أدواره بسلاسة، خصوصا تلك التي يحمل بعضها كثير من التعقيد. مصمّم الديكور رجل يرسم بقلمه وريشته ملامح التكوين الشكلي للمجتمع. يمزج فيها روحه الخاصة في التنفيذ والتراكيب. هي حالة يعتني بها الفنان في تحضيره لشخصياته، حيث يقوم بالرسم الجيد والدقيق لها على مستوى الصوت والأداء ولغة الجسد مضيفا عليها روحه الخاصة في التقمص.
قد يكون هناك من سبقه وتفوّق عليه في مرحلة سابقة على مشواره الفني، لكن سعد يظل بين أبناء جيله، على الأقل، صاحب موهبة ومسؤولية مجتمعية، واختار صعود سلّم نجاحه بتأن ورشاقة فنية من خلال عنايته وتطوير الأداء التمثيلي من عمل لآخر.
أزمة السينما المصرية
تواجه السينما في مصر أزمة كبيرة في ظل تراجعها أمام الدراما التي أصبحت الملاذ الأول للجمهور المحبّ للفن. ويرجع الخبراء السبب إلى سطحية وضعف جودة ما يقدّمه منتجو الأفلام، والابتعاد عن القضايا التي تمس حياة الناس، والاستغراق في أفلام الحركة والكوميديا جريا وراء حصد أرقام من المال، وأضحى معظمها فقرات منفصلة عمّا يشغل المشاهد.
ساهم إصرار سعد على تجاوز فكرة المقارنة مع الراحل أحمد زكي الذي ادّعى البعض أن سعد يقوم بتقليده ويتقمص روحه، بسبب تقارب ملامح الشكل وبعض الأدوار، في أن اختط لنفسه طريقا مختلفا وأسلوبا جعل الكثيرين يتخلّون عن فكرة وضعه في مربع المقارنة مع زكي. ونجح في تخطّي هذا الحاجز مبتكرا مدرسته في الأداء، التي قد تتشابه في توظيف لغة الجسد مع زكي، لكنها مُفعمة بالالتحام مع الشخصية وإدراك مقوماتها جيدا.
تبقى المقارنة بين سعد وزكي واردة، خاصة في التشابه بينهما في التجدّد والرؤية المختلفة وانتقاء الأدوار التي تتناسب مع الوضع العام والعمر والفكر. لذلك بات سعد في نظر بعض النقاد من الفنانين القلائل الذين ساروا على نهج نجوم سابقين ومن أجيال مختلفة تميّزوا في قدرتهم على التلون فنيا حسب التغيرات المحيطة بهم، ومن هؤلاء يوسف وهبي وفريد شوقي وأحمد زكي.
أفضى الحسّ الاجتماعي الذي يتمتّع به سعد وخالد يوسف، إلى نجاحهما في مناقشة قضايا سياسية تمثّل تأريخا لفترات عصيبة مرّت بها الدولة المصرية، كان أولها فيلم “حين ميسرة”، الذي قدّم عام 2007، ورصد فيه مجتمع العشوائيات والفقر في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، ثم توالى الإسقاط السياسي من خلال فيلم “دكان شحاتة” عام 2009 الذي ألقى بظلال قاتمة على تلك الحقبة المتأزمة، وكان يؤكد على أنه برحيل الرئيس جمال عبدالناصر زاد الشرخ وانهارت الشخصية المصرية.
في أحدث أفلامه “كارما” والمأخوذ عن قصة للفنان عمرو سعد، ورفض وضع اسمه عليه كمؤلف، يتم رصد قضية تهجير أبناء مثلث ماسبيرو، وهو أحد الأحياء الفقيرة في منطقة وسط القاهرة، مستعرضا توحّش الرأسمالية وزيادة طبقة الأغنياء.
يؤكد “الدويتو” أو الثنائي سعد – يوسف، أن الآراء الفكرية والسياسية بينهما في توافق وانسجام تامين، لذلك خاضا معا معركة انتقاد النظام السياسي للرئيس الأسبق حسني مبارك بشجاعة خلال فترة وجوده في السلطة وبعد رحيله.
من الحالة التوافقية، صار سعد بطلا أصيلا في أفلام يوسف الذي وجد فيه ضالّته، من حيث أنه فنان مهموم بقضايا مجتمعه، ولا يسير وراء موجة فنية معينة. وهنا ظهر وعي سعد الذي لم يستغل قربه من طبقة البسطاء والفقراء بمجتمعه ليكون نجما لسلسلة من أفلام أو مسلسلات “البلطجة” والعنف التي اتسعت شعبيتها في السنوات الماضية، بل ظل محافظا على صورة الرجل المصري المكافح الذي يواجه الفقر وضيق الحال بشرف.
يرى كثيرون أن فيلم “كارما”، الذي يعرض حاليا في دور العرض، هو الرهان الأعظم لتكريس عمرو سعد كفنان كبير. فالبطل في هذا العمل يقوم بتقديم شخصيتين، إحداهما تمثل طبقة الأثرياء والأخرى الفقراء. في كل منهما يقدّم سعد أداء متزنا، الأول لرجل اعتاد أن يكون العالم ملكه، والثاني يبحث فقط عن بضعة جنيهات للعيش.
بين الشخصيتين سلسلة من التناقضات، في مقدمتها أنهما لا يحملان الديانة ذاتها، فأحدهما مسلم والآخر قبطي، ويتمتع الأول بالغرور والتكبّر والثقة بالذات بعكس الثاني، مهزوز حتى أمام ابنته الصغيرة، لكنه في الوقت ذاته مرح وخفيف الظل.
تكمُن الصعوبة في الحفاظ على حالة الاتزان التي يقدمهما عمرو سعد، خصوصا وأنهما ليسا توأمين، لكنهما رؤية لضمير وفكر مختلف، وهو ما تطلّب الحفاظ على روح الشخصيات وثباتها الانفعالي واضطرابها الداخلي في بعض الأحيان.
بين الواقع والخيال
بدت المعاناة الشخصية التي لقيها سعد في بداية رحلته الفنية بعد فشله في الالتحاق بالمعهد العالي للسينما، وتعثره في تحقيق الحلم عقب وعود بالمشاركة في أعمال ثم استبعاده منها. ومع عمق الألم الذي وجده، كان هذا الإخفاق عاملا محفّزا لفرض موهبته على الساحة الفنية، وتغلغله في قضايا مجتمعه بصورة أكثر دقة لإحساسه بتلك المعاناة من قبل.
في مسلسله “وضع أمني”، والذي عرض في رمضان 2017، قدّم سعد نموذجا لمواطن صالح يمر بتعثّرات كبيرة على مستوى العمل ويتحوّل مع مرور الوقت من مواطن صالح إلى رجل يهدّد أمن أحد المستشفيات بعد فشله في علاج ابنته على نفقة الدولة.
ناقش باقتدار ملف الإهمال الطبي الذي احتفظ به في ذاكرته، وطالما حلم بتقديم عمل عن ذلك بعد أن شاهد طوابير المواطنين تصطف أمام أحد مستشفيات الحميات في القاهرة أملا في تلقّي العلاج.
يحرص سعد، عكس الكثير من الفنانين الذين يكرّسون اهتمامهم لمتابعة مشاهير هوليوود وأصحاب أفلام الحركة والكوميديا، على متابعة أعمال النجم الأميركي وَيْل سميث والذي تمثل الكثير من أعماله الاهتمام بالقضايا الإنسانية، ما وضع وَيل سميث في مكانة خاصة بين نجوم هوليوود ويبدو أن عمرو سعد متمسك بالسير على نفس نهج نجم هوليوود، مع فارق في القضايا كل مجتمع، لكنها في النهاية تمس اهتمامات شريحة كبيرة من الناس.
ما يؤكد نجاح سعد مع جمهور البسطاء أنه بعد منع عرض مسلسله “بركة” في رمضان الماضي ظل الجمهور يبحث عنه خلال الأسبوع الأول من الشهر متسائلا عن موعد عرضه، ما يدل على الشعبية الكبيرة التي بات يحظى بها من قبل محبيه. ويناقش أيضا هذا المسلسل مجموعة من القضايا المجتمعية التي تلامس الكثير من أوجاع المهمشين.
يرى البعض من النقاد أن فيلم “مولانا”، الذي قدّمه سعد منذ عام عن رواية الكاتب إبراهيم عيسى التي تحمل الاسم نفسه، محطة مهمة سوف تبقى عنوانا بارزا في مشواره ليس فقط لأهمية الرواية التي رشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2013، لكن لأن شخصية “حاتم الشناوي” التي قدمها لم يتناول فيها الداعية الإسلامي بصورة تقليدية، فهو قدمه كشيخ يحمل روح الدعابة والمرح، وينشر الإسلام السمح ويقف ضد بعض توجهات الحكومة، وكأنه معارض سياسي.
اللافت أن “مولانا” يكمل بشكل غير مباشر، سلسلة الأفلام المنتقدة لعصر حسني مبارك وتحكمه في المشهد الإعلامي والديني والسياسي وتوريط بعض
الشخصيات العامة في سياساته الخاطئة، وهو يحمل رسالة تحذير ضمنية لنظام الحكم حاليا في مصر، من خلال التلميح للمصير الذي انتهى له مبارك، والنتيجة التي وصل إليها بسبب هذه النوعية من التصرفات.
يونس ولد فضة
ربما يحتل سعد مكانة سينمائية أفضل لدى الجمهور مقارنة بالتلفزيون الذي كان النجاح الأكبر له فيه من خلال عملين، الأول “شارع عبدالعزيز”، وتناول قصة صعود شاب مكافح من خط الصفر حتى أصبح رجل أعمال تجمعه علاقات بشخصيات هامة في الدولة.
أما المسلسل الثاني فهو “يونس ولد فضة”، والذي كسب به شعبية مجتمع الصعيد الذي ابتعد الكثير من الفنانين عن معالجته بطريقة دقيقة وعميقة، للدرجة التي جعلت بعض النقاد يصنّفونه أنه من الأعمال الجيدة التي قدّمت عن الصعيد في السنوات الأخيرة.
يحتاج عمرو سعد إلى نقلة مختلفة في عمله بالدراما التلفزيونية، كي يتجاوز فكرة تناول شخصيات البسطاء والعامة، حتى وإن كانت هناك تحولات في بعض الأدوار وصعود إلى القمة، بعد أن حقق تميّزا واضحا في تلك المنطقة.
لكن المؤكد أن هذه النوعية الدرامية يتغير شكلها كل عام، ما يتطلب منه خوض مغامرة جديدة، بتقديم شخصية تصدم جمهوره بمفاجآتها غير المتوقعة أو أن يفكر في المشاركة بمواسم درامية خارج السباق الرمضاني، ليضمن تكوين قاعدة جماهيرية كبيرة.
لـم تـأخذ البعـض من أعمال سعد حقها في الدعاية الإعلامية، منها فيلم “الكبار” الذي قدّم في 2010 ورصد قضية صراع السلطة ورأس المال، وفيلم “حديد” الذي كان يجسد فيه شخصية شاب مكافح فقد عينه اليسرى.
أخيرا يرى عمرو سعد طريق اعتزاله مبكّرًا. فقد قال مؤخرا إن عطاءه كفنان ربما يكتفي فيه عند عمر الـ50. وهذه بحد ذاتها جرأة يتميز بها عن غيره.