الحَكّاء والروائي

الإنسان مخلوق حكّاء بطبيعته، ومقدرته الحكائية خصيصة ملازمة لتطوّر اللغة لديه، ويمكن عدّ اللغة بمثابة خزان رمزي يمكّن المرء من التعبير عن رؤيته للعالم عبر آليات معقدة تنتهي سلسلتها في قدرة التعبير عن الحياة بشكل متتالية حكائية من الوقائع. تختلف الحكايات وتتلوّن بحسب خبرات الحكّائين وخلفياتهم الثقافية ومقدراتهم العقلية؛ إنما يظلّ المرء حكّاءً في نهاية المطاف، وربما كان وصف “الإنسان الحكّاء” هو الوصف الأمثل لتطوّر الكائن البشري في سلسلة الارتقاء البيولوجي بعدما امتلك القدرة على التعامل الرمزي من خلال اللغة.
كلّنا حكّاؤون إذن ابتداءً من الجدّات البسيطات غير المتعلّمات اللواتي يبرعن في حكي الأقاصيص الساحرة لأحفادهن وحفيداتهنّ وحتى حَمَلة جوائز نوبل، ولعلّ الجدّات أكثر براعة في الحكي من المتعلّمين بسبب أنّ قدراتهنّ الحكائية البدائية لم يخدشها التلوث الناجم عن القدرات العقلية المكتسبة اللاحقة، وهنا تبدو المقدرة الحكائية، بل وحتى اللغة ذاتها، أقرب إلى الغريزة الشبيهة بالغرائز العديدة الأخرى، وعلى هذا الأساس لن يكون أمرا غريبا أن يعنون أحد أكبر البحّاثة في ميدان علم النفس المعرفي، وهو البروفيسور ستيفن بنكر من جامعة هارفارد، أحد كتبه ذائعة الصيت بعنوان “غريزة اللغة”.
أما الروائي فذلك شأن آخر مختلف كلّ الاختلاف، وإذا كنّا كلنا حكائين بالضرورة فلسنا كلنا روائيين، والمقدرة الروائية، والسردية، ليست غريزة أو مقدرة فطرية بدائية بل هي صناعة يقدر على ركوب مركبها الصعب من أوتي عقلا روائيا يمتلك المقدرة على رؤية العالم من خلال السرد وأدواته الكثيرة.
أمّنا الطبيعة بذكائها الخارق تعرف كيف تتعامل مع الكائنات البشرية؛ فنرى أن القدرة الحكائية سمة مشاعية بين البشر لأنها آلية حمائية توفّر للكائن القدرة على التعبير عن حاجاته ومكبوتاته وبالتالي إدامة مستلزمات وجوده البيولوجي وتوازنه السايكولوجي على الأرض عبر امتلاك القدرات التواصلية المؤثرة مع البشر؛ أما القدرة السردية فليست مشاعية بل هي مقصورة على هؤلاء الذين لا يأنسون الحياة إلا إذا تمكّنوا من التعبير عنها بوسائل سردية تمنحهم الإحساس بالتوازن الروحي والثراء العقلي الناجم عن الإحساس بقيمة الإنجاز.
هل يمكن الحديث عن عقل روائي متمايز عن العقول الأخرى؟ الجواب بكلّ تأكيد: نعم. العقل الروائي تشكيلة خاصة هي أقرب لأن تكون خلطة متوازنة من كل العقول الأخرى (العقل الرياضياتي والفيزيائي والتحليلي والحكواتي والبَصَري والتشكيلي..)، والروائي صناعة شاقة متطلبة لكنها لن تنجح إذا لم ينهض بها عقل تشكلّ تشكلا روائيا في لحظة الخلق الأولى.
الرواية فنّ ساحر قلّما يوجد من يستطيع النجاة من غواياته المدهشة، وهذه حقيقة لها أسبابها الكثيرة وفي مقدمتها المقدرة التأثيرية للرواية في عقول القارئين إلى جانب شيوع اسم الروائيين وارتقائهم لمصاف النجوم العالميين؛ غير أن هذه الغواية الروائية غواية مهلكة ينبغي الحذر من تبعاتها السلبية.
شاعت في أيامنا هذه عادة تجريب الكتابة الروائية من قبل كثيرين بمشارب ثقافية ومهنية شتى، وتلك ظاهرة لا ضير فيها وتتّفق مع مُتطلّبات الديمقراطية الجندرية والمهنية، شرط أن يشعر ذلك الكاتب بنقص جوهري في كينونته الإنسانية متى ما ابتعد عن كتابة الرواية، وإذا لم تمنحه الكتابة الروائية توازنه النفسي وانتشاءه الخارق الذي يبلغ حد الافتتان فسوف تغدو محاولاته الكتابية ضربا من إضاعة الوقت والجهد فضلا عن مُخادعة النفس.