هل ستموت الرأسمالية؟

من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة لها؛ إنما علينا ألا نعمم حكمنا على الرأسماليين، فليس الجميع أشرارا.
الأربعاء 2018/06/27
لا تزال الأدبيات الماركسية تلقى رواجاً كبيرا في أنحاء عالمنا

لا أحسب أنّ عبارة “موت الرأسمالية” قد وهنت نبرتها يوما خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، تأتي هذه النبرة في العادة بهيئة نذير يحمل نبوءة أشبه بالنبوءات اللاهوتية حيث لا يكون الفناء محض تلاشٍ فيزيائي لحالة واستبدالها بحالة أخرى، بل يكون فناءً عاماً للبشرية مقترناً بخراب شامل وكامل لا يُبقي شيئاً من معالم الحياة الإنسانية على وجه الأرض.

لطالما قرأنا كتبا تتصدى لفكرة “موت الرأسمالية” ومن بين هذه الكتب كتاب “الرأسمالية تجدّد نفسها” من تأليف الدكتور فؤاد مرسي. يمتاز هذا الكتاب بكونه دراسة مسحية معمّقة لبدايات الرأسمالية وآثارها ومفاعيلها في حضارتنا الراهنة وقدرتها الفائقة على الارتقاء بالرفاهية عبر تصنيع أسباب الترف المادي وتوفير المتع ووسائل البذخ اللامحدودة.

يبتعد كتاب الدكتور فؤاد مرسي برصانته عن الشعبويات السائدة التي أشاعتها أحزاب اليسار الجديد بطريقة تُعلي من شأن الخطاب الأيديولوجي على حساب الحقائق الراسخة على أرض الواقع. فنقرأ في هذا الكتاب -على سبيل المثال- فصلاً عن “الأزمات الدورية في الرأسمالية المعاصرة”، ونعرف منه بما لا يقبل اللبس أنّ هذه الأزمات الدورية ليست أعراضاً سريرية منذرة باقتراب الموت بقدر ما هي ملامح ملازمة لطبيعة آليات اشتغال الرأسمالية.

لم يكن الترويج لفكرة شعبوية عن موت الرأسمالية سوى فكر رغائبي يُراد منه رؤية القلاع الرأسمالية تتهاوى مثلما تهاوت قبلها قلاع الشيوعية، ولا ننسى في هذا السياق أن الشيوعية ذاتها تعرّضت لذات الهجمة النبوئية المنذرة بموتها، روايات أورويل وآرثر كوستلر مثالا، ثمّ تحققت هذه النبوءة بتهاوي القلاع التي كانت تمثل التجربة الاشتراكية نتيجة ظروف متضافرة كثيرة أدت إلى انهيار المنظومة بكاملها.

هناك الكثير مما علينا التوقف عنده في الحالتين: قد نتفق على سقوط الشيوعية كتطبيقات؛ لكن الفكر الماركسي الذي عُدّ الخلفية الأيديولوجية للدول الشيوعية لا يزال حياً، ولا تزال الأدبيات الماركسية تلقى رواجاً كبيرا في أنحاء عالمنا؛ فنجد أمهات الجامعات في البلدان الرأسمالية تواصل إصدار دراسات حديثة وكثيرة بشأنه. إذن ثمة فرق كبير بين جوهر الأفكار وبين تطبيقاتها والمؤسسات (ومنها الحكومات) القائمة على تلك التطبيقات، والأمر يصحّ على الرأسمالية بقدر ما يصحّ على الماركسية.

ثمّ إنّ الرأسمالية ليست رأسمالية واحدة بل هي رأسماليات عدّة؛ فالرأسمالية الأميركية الأصولية المحكومة بغول الفردانية الجامحة هي غير الرأسمالية الألمانية أو الإسكندنافية المُرشّدة بموجّهات الديمقراطية الاجتماعية، وهذه غير الرأسمالية اليابانية المحكومة باعتبارات التقاليد اليابانية الصارمة، ولعلّ المثال الأكثر تطرفاً بين الرأسماليات المعاصرة هو نموذج الرأسمالية الصينية التي تجاوزت التلازم القسري بين الليبرالية السياسية والاقتصاد الحرّ ونجحت في توظيف الآليات الرأسمالية بمعزل عن إسقاطاتها السياسية وأحرزت انعطافات ثورية في هذا المجال طبقاً لقاعدة دينغ زياو بنغ القائلة “ليس المهمّ أن يكون القطّ أبيضَ أو أسودَ بل ما يهمّنا فيه أن يصيد الفئران”؛ فهل ستموت هذه الرأسماليات كلها دفعة واحدة؟ وإذا مات بعضها فأيها ستموت قبل الأخريات؟

من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة لها؛ إنما علينا ألا نعمم حكمنا على الرأسماليين، فليس الجميع أشرارا، إذ نجد بينهم من تعامل مع المال برؤية إنسانية قلما ارتقى إليها دعاة موت الرأسمالية – بيل غيتس مثالا-، وتبقى الأعمال الخيرة التي ترتقي بالبشرية أخلد من الصراخ الأيديولوجي.

14