ملاحم ومهازل

لعل كتابات رولان بارت وأمبرتو إيكو وادواردو غاليانو عن مجازات المستطيل الأخضر أن تكون الأكثر تداولا في سياق ما انفكت سردياته وتأويلاتها تتفاقم يوما بعد يوم.
الأربعاء 2018/05/30
"الدردشة حول الكرة قد تكون بديلا عن الحديث السياسي"

لا تبتعد كرة القدم عن حقول الكتابة على النحو الذي قد يُتصوّر للوهلة الأولى، الملاعب ليست نقيضا للصفحات أو الشاشات، والمقابلات لا تبتعد كثيرا عن صيغ تمثلنا للمعنى، فقد تتخذ أبعادا بلاغية كأن تكون استعارات أو مجازات، عن صراعات أكبر وأعمق، وقد تُتمثل أحيانا بوصفها نصوصا من سرديات مختلفة؛ لهذا نجد متابعين مولعين بالمستديرة الساحرة يصفون مباريات بذاتها بكونها “مسرحيات” أو “مهازل”، مثل مباراة ريال مدريد وجوفنتوس التي تضمنت ضربة جزاء في الوقت الضائع، وأحيانا بكونها “ملاحم” كمقابلة المغرب والبرتغال في نهائيات كأس العالم بالمكسيك سنة 1986، كما أن اللاعبين يمكن أن يتحولوا إلى أساطير فبيلي ومارادونا وزين الدين زيدان، ليسوا بشرا من لحم ودم، بقدر ما هم حكايات خارقة لها هويات وطنية وعرقية وجنسية.

ولم يكن غريبا أن يتولّع بعض عتاة الكتابة الشعرية والروائية والمسرحية بكرة القدم، وأن يمارسوها زمنا، وأن ينشغلوا بتظاهراتها الوطنية والدولية، انشغالهم بكتاباتهم وإصداراتهم الجديدة، بل إن شعراء عديدين كتبوا قصائد عنها منذ معروف الرصافي الذي وصفها بقوله “لا تستقرّ بحالة فكأنها أملٌ به تتقاذف الأوهامُ”، إلى الشاعر المغربي أحمد صبري الذي زاوج في ثمانينات القرن الماضي بين كتابة الشعر والصحافة الرياضية وتدريب فرق لكرة القدم.

 مثلما لم يكن يعادل انشغال محمود درويش بالقضية الفلسطينية إلا متابعته لتظاهرات كؤوس أوروبا وآسيا وإفريقيا وكأس العالم. إنه إدمان لا يخلو من معان ورمزيات، شغلت روائيين ونقادا وسيميائيين لسنوات طويلة، ولعل كتابات رولان بارت وأمبرتو إيكو وادواردو غاليانو عن مجازات المستطيل الأخضر أن تكون الأكثر تداولا في سياق ما انفكت سردياته وتأويلاتها تتفاقم يوما بعد يوم.

لهذا لم أتمثل تلك التوليفة الغنائية المسرحية التي صاغها عدد من نجوم المسرح والغناء بالمغرب لدعم ملف استضافته لكأس العالم سنة 2026، باعتبارها زيغا مبتذلا، بل إن وصفها بالملحمة لم يخرج في ذهني عن تلك المماثلات المجازية غير الجدية ذات البعد الدعائي الذي تحفل به فضاءات الكرة.

 إنها عيّنة من هوامش الإنتاج المتصلة بهذا العالم الغارق في الاستشهارات والمراهنات والتطلع الدائم للأرباح، ولو أنه يسعى لإيهامنا بخطورته البالغة حين ينخرط روائيون ومفكرون في التعقيب على مباريات، وتحويل نتائجها إلى لحظة تصفية لحسابات، مثلما وقع عندما انجر يوسف زيدان لمعترك الهوليغانز غداة مباراة الجزائر ومصر الشهيرة، حيث أثبت للمرة الألف مقولة أمبرتو إيكو “إن الدردشة حول الكرة قد تكون بديلا عن الحديث السياسي إلى الحدّ الذي تصبح فيه هي نفسها الحديث السياسي”.

15